الثلاثاء، ١٧ مايو ٢٠١١

الشيطان يعلّم ..


قال أحمد بن مسكين: وقصصت عليهم القصة فقلت: كان أبو عامر قبيصة بن عقبة كثير الفكر في الشيطان، يود لو رآه وناقله الكلام؛ وكان يتدبر الأحاديث التي صح ورودها فيه، ويفسر معنى الشيطان بأنه الروح الحي للخطأ على الأرض؛ والخطاء يكون صوابا محولا عن طريقته وجهته، ولهذاكان إبليس في الأصل ملكا من الملائكة وتحول عن طبيعته حين خلق آدم عليه السلام، أي وجد في الكون روح الخطأ حين وجد فيه الروح الذي سيخطئ.



فلما هبط آدم من الجنة وحرمها هو وزوجه وذريته، كان إبليس لعنه الله هو معنى بقاء هذا الحرمان واستمراره على الدهر، فكأن هذه الآدمية أخرجت من الجنة، وأخرجت معها قوة لا تزال تصدها عنها، ليضطربا في الكفاح مليا من زمن هو عمر كل إنسان، وهذا هو العدل الإلهي: لم يعرف آدم حق الجنة، فعوقب ألا يأخذها إلا بحقها، وأن يقاتل في سبيل الخير قوة الشر.

وبات أبو عامر ذات ليلة يفكر في هذا ونحوه بعد أن فرغ من صلاته وقراءته، ثم هوم فكان بين اليقظة والنوم، وذلك حين تكون العين نائمة والعقل لا يزال منتبها، فكأن العين متراجعة تبصر من تحت أجفانها بصرًا يشاركها فيه العقل.

فرأى شيخنا أبو عامر صورة إبليس جاءه في زي رجل زاهد، حسن السمت طيب الريح، نظيف الهيئة، وكاد يشبه عليه لولا أنه قد عرفه من عينيه، فإن عيني الكاذب تصدقان عنه، وقد علم الله أن الكاذب آدمي قفر كالمتاهة من الأرض، فجعل عينيه كالعلامات لمن خاض الفلاة.


وظهر الشيطان زاهدًا عابدًا تقيا نقيا كأنه دين صحيح خلق بشرًا، فصرخ فيه أبو عامر: عليك لعنة الله! أمعصية في ثوب الطاعة؟

قال إبليس: يا أبا عامر! لو لم تقل المعصية: إنها طاعة لم يقارفها أحد. وهل خلقت الشهوات في نفس الإنسان وغريزته إلا لتقريب هذه المعاصي من النفس، وجعل كل منها طاعة لشيء ما؛ فتقع المعصية بأنها طاعة لا بأنها معصية؟ أوَلا ترى يا أبا عامر أن الحيلة محكمة في الداخل من الجسم أكثر مما هي محكمة في الخارج عنه، وأنه لولا أن هذا الباطن بهذا المعنى وهذا العمل لما كان لظاهر الوجود كله في الإنسان معنى ولا عمل؟

قال الشيخ: عليك لعنة الله! فما أرى الموت قد خلق إلا ردا عليك أنت، ليتبين الناس أنك الممتلئ الممتلئ، ولكنك الفارغ الفارغ؛ بل كل شهواتك سخرية منك ورد عليك، فلا طعم للذة من لذاتك إلا وهي تموت، وإنما تمام وجودها ساعة تنقضي؛ ومتى قالت اللذة: قد انتهيت. فقد وصفت نفسها أبلغ الوصف.


قال إبليس: يا أبا عامر، ولكن اللذة لا تموت حتى تلد ما يبقيها حية، فهي تلد الحنين إليها، وهو لا يسكن حتى يعود لذة تنقضي وتلد.

قال الشيخ: معاني التراب، معاني التراب؛ كل نبتة فيها بذرتها، ولكن عليك لعنة الله لماذا جئتني في هذه الصورة؟
قال إبليس: لأني لا ألبس إلا محبة القلب الآدمي، ولولا ذلك لطردتني القلوب كلها وبطل عملي فيها، وهل عملي إلا التلبيس والتزوير؛ أفتدري يا أبا عامر أني لا أعتري الحيوان قط.


قال الشيخ: لأن الحيوان لا ينظر إلى الشيء إلا نظرة واحدة، هي نظره وفهمه معا، فلا محل للتزوير مع هذه النظرة الواحدة؛ وصدق الله العظيم: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221، 222]. فأنت أيها الشطيان التزوير، والتزوير موضعه الكذب؛ فمن لم يكذب في الفكر ولا في النظر ولا في الفهم ولا في الرجاء، فليس لك عنده عمل.



قال إبليس: يا أبا عامر! وهل ترى رحمك الله أعجب وأغرب وأدعى إلى الهزء والسخرية من أن أعظم العقلاء الزهاد العباد، هو في جملة معانيه حيوان ليس له إلا نظرة واحدة في كل شيء؟
قال الشيخ: عليك وعليك...؛ إن الحيوان شيء واحد، فهو طبيعة مسخرة بنظامها، ولكن الإنسان أشياء متناقضة بطبيعتها، فألوهيته أن يقر النظام بين هذه المتناقضات، كأنما امتحن فأعطى من جسمه كونا فيه عناصر الاضطراب، وحوله عناصر الاضطراب، ثم قيل له دبره.

فضحك إبليس. قال الشيخ: مم ضحكت لعنك الله؟
قال: ضحكت من أنك أعلمتني حقيقة الإبليسية، فالزهاد هم الصالحون لأن يكونوا أعظم الأبالسة.
قال الشيخ: عليك لعنة الله، فما هي تلك الحقيقة التي زعمت؟
قال إبليس: والله يا أبا عامر، ما غلا إنسان في زعم التقوى والفضيلة إلا كانت هذه هي الإبليسية؛ وسأعلمك يا أبا عامر حقيقة الزهد والعبادة. فلا تقل: إنها ألوهية تقر النظام بين متناقضات الإنسان ومتناقضات الطبيعة.
قال الشيخ: وتسخر مني لعنك الله؟ فمتى كنت تعلم الحقيقة والفضيلة؟


قال إبليس: أوَلم أكن شيخ الملائكة؟ فمن أجدر من شيخ الملائكة أن يكون عالمها ومعلمها؟
قال: عليك لعنة الله؛ فما هي حقيقة الزهد والعبادة؟
قال إبليس: حقيقتها يا أبا عامر، هي التي أعجزتني في نبيكم.
قال الشيخ: صلى الله عليه وسلم؛ فما هي؟


قال إبليس: هي ثلاث بها نظام النفس, ونظام العالم، ونظام اللذات والشهوات؛ أن تكون لك تقوى، ثم يكون لك فكر من هذه التقوى، ثم يكون لك نظر إلى العالم من هذا الفكر. ما اجتمعت هذه الثلاث في إنسان إلا قهر الدنيا وقهر إبليس.

فإن كانت التقوى وحدها -كتقوى أكثر الزهاد والرهبان- فما أيسر أن أجعل النظر منها نظر الغفلة والجبن والبلادة والفضائل الكاذبة، وإن كان الفكر وحده -كفكر العلماء والشعراء- فما أهون أن أجعل النظر به نظر الزيغ، والإلحاد والبهمية والرذائل الصريحة.


قال الشيخ: صدق الله العظيم: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].
قال إبليس: يا أبا عامر! ما يضرني والله أن أفسر لك، فإن قارورة من الصبغ لا تصبغ البحر، وأنا أعد الزهاد والعلماء المصلحين فأضع في الناس بجانب كل واحد منهم مائة ألف امرأة مفتونة، ومائة ألف رجل فاسق، ومائة ألف مخلوق ظالم، فلو أنك صبغت البحر بملء قارورة حمراء لما صبغت البحر الإنساني بالزاهد والمصلح، ما دام المصلح شيئا غير السيف، وما دام الزاهد شيئا غير الحاكم.

قال الشيخ: لعنك الله من شيطان عارم، فإذا وضعت المصلح بين مائة ألف فاسد، فهل هذه إلا طريقة شيطانية لإفساده؟


قال إبليس: ومائة ألف امرأة فتانة مفتونة يا أبا عامر، كل واحدة تحسب جسمها...
فصرخ الشيخ: اغرب عني عليك لعنة الله!

قال إبليس: ولكن الآية الآية يا أبا عمر. لقد لقيت المسيح وجربته وهو كان تفسيرها.
قال الشيخ: عليه السلام! وعليك أنت لعنة الله! فكيف قال؟ وكيف صنع؟

قال إبليس: ألقيت به جائعا في الصحراء لا يجد ما يطعمه، ولا يظن أنه يجد، ولا يرجوا أن يظن؛ ثم قلت له: إن كنت روح الله وكلمته كما تزعم فمر هذا الحجر ينقلب خبزًا، فكان تقيا، فتذكر فإذا هو مبصر، فقال: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، فمثل هذا لو مات جوعا لم يتحول، لأن الموت إتمام حقيقته السامية فوق هذه الدنيا، ولو ملئت له الدنيا خبزًا وهو جائع لم يتحول؛ لأن له بصرا من فوق الخبز إلى حقيقته السماوية؛ ليس بالخبز وحده يحيا؛ بل بمعان أخرى هي إشباع حقيقته السماوية التي لا شهوة لها.



ثم ارتقيت به إلى ذروة جبل وأريته ممالك الخافقين، كشفتها كلها لعينيه وقلت له: هذا كله لك إذا أنت سجدت لي. فكان متقيا، فتذكر فإذا هو مبصر: أبصر حقيقة الخيال الذي جسمته له، وعلم أن الشيطان يعطي مثل معاني هذه الممالك في جرعة خمر، كما يعطيها في ساعة لذة، كا يعطيها في شفاء غيظ بالقتل والأذى؛ ثم لا يبقى من كل ذلك باق غير الإثم، ولا يصح منه صحيح إلا الحرام. ومن ملك الدنيا نفسها لم يبق لها إذا بقيت فهي خيال في جرعة الحياة، كما هي خيال في جرعة الخمر.

يا أبا عامر؛ إن هذا النظر، الذي وراءه التذكر، الذي وراءه التقوى، التي وراءها الله, هذا وحده هو القوة التي تتناول شهوات الدنيا فتصفيها أربع مرات حتى تعود بها إلى حقائقها الترابية الصغيرة التي آخرها القبر، وآخر وجودها التلاشي.
فالبصر الكاشف الذي يجرد الأشياء من سحرها الوهمي، هذا هو كل السر.
قال الشيخ: لعنك الله؛ فكيف مع هذا تفتن المؤمن؟
قال إبليس: يا أبا عامر، هذا سؤال شيطاني, تريد -ويحك- أن تحتال على الشيطان؟ ولكن ما يضرني أن أفسرها لك.


ليس الإيمان هو الاعتقاد ولا العمل، ولو كان من هذين لما شق على أحد ولصلحت الدنيا وأهلها؛ إنما الإيمان وضع يقين خفي يكون مع الغريزة في مقرها، ويصلح أن يكون في مقرها لتصدر عنه أعمال الغريزة، وهذا اليقين لا يصلح كذلك إلا إذا كان يقينا ثابتا بما هو أكبر من الدنيا، فيرجع إليه الإنسان فيتذكر فيبصر. هناك ميراث من الآخرة للمؤمن، فاليقين بهذا الميراث هو سر الإيمان.


والعمل الشيطاني لا يكون إلا في إفساد هذا اليقين ومعارضة الخيال العظيم الذي فيه بالحقائق الصغيرة التي تظهر للمغفل عظيمة، كما تشب نار أكبر من قرص الشمس ثم يقال للأبله: انظر بعينيك، فيصدق أنها أكبر من الشمس.
ومتى صغر هذا اليقين وكانت الحقائق الدنيوية أكبر من النفس؛ فأيسر أسباب الحياة حينئذ يفسد المعتقد ويسقط الفضيلة؛ وبدرهم واحد يوجد اللص حينئذ.

أما إذا ثبت اليقين فالشيطان مع الإنسان يصغر ثم يصغر، ويعجز ثم يعجز.
حتى ليرجع مثل الدرهم إذا طمع الطامع أن يجعل الرجل الغني الكثير المال لصا من اللصوص بهذا الدرهم.
قال الشيخ: لعنك الله! فإن لم تستطع إفساد هذا اليقين فكيف تصنع في فتنة المؤمن؟
قال إبليس: يا أبا عامر، إن لم أستطع إفساد اليقين زدته يقينا فيفسد، واستحسان الرجل لأعماله السامية قد يكون هو أول أعماله السافلة؛ وبأي عجيب يكون الشيطان إلا بمثل هذا؟

قال أحمد بن مسكين: وغضب الشيخ، فمد يده فأخذ فيها عنق إبليس وقد رآه دقيقا، ثم عصره عصرا شديدًا يريد خنقه؛ فقهقه الشيطان ساخرًا منه. ويتنبه الشيخ، فإذا هو يشد بيده اليمنى على يده اليسرى.

هناك تعليق واحد: