السبت، ٣ مارس ٢٠١٢





ما خلقَ الله لذّةً أهنأ للنّفسِ من لذّة الاحلام , فكأنّما ترى فيها النّفس 


شيئاً من تحقيق المستحيل , وَ إنّ في أعقابِ هذه اللذّة بعدَ اليقظةِ 


ما يشعرُ المرء 




بالأماني كيف جاءتْ وَ كيفَ ذهبت . فتكونُ ذكرى الحلم أروحَ على 


النّفس من الحلمِ نفسِه لأنّها نتاجُ ما بينَ لذّةٍ لمْ تكن شيئاً وَ لذّةٍ 




صارتْ شيئاً ! 


مصطفى صادق الرافعى

الخميس، ١٦ فبراير ٢٠١٢





وَ لوْ وُلِدَ النّور لكانَ وجهَك الجميلَ المشرق , وَ لوْ وِلِدتْ الكهرباءُ التي هيَ سرُّ النّور 


لكانتْ أسرارُ عينيك , وَ لوْ تولّدتِ القوّةُ التي هيَ سرُّ الكهرباءِ لكانتْ فتنةَ حبّك , وَ كلُّ 


المعاني التي في نفسي لا تتّخذُ صوَرها إلا منكِ لأنّكِ بجملتكِ تمثال الشعر ..




وَ فيك المعاني التي تقول : أينَ كلماتي ؟


وَ فيَّ أنا الكلمات التي تقولُ : أنتَ معانيَّ ! 


مصطفى صادق الرافعى

الاثنين، ٢٣ يناير ٢٠١٢


كلمة وكليمة, للأديب الرافعي ـ رحمه الله تعالى ـ

1. مثلُ مذهب الاشتراكية في وهم توزيع المال ومذهب الإسلام في الزكاة، مثل رجلين مر أحدهما بغريق يتخبط في اللُّج، فاستغاثه الغريق، فنظر، فإذا حبل مُلقى على الشاطئ، ولكنه صاح بالهالك: أنت والله في نفسي أكبر منزلة من أن أُخرجك بالحبل، فأنا ذاهب أبحث لك عن زورق... ومر الثاني فألقى له الحبل فنجا.
2. ابن المرأة العجوز عجوز حتى في الطفولة، وابن الشابة شاب حتى في الكهولة؛ فيا لضيعة الإنسانية من تأخير الزواج!
3. الفرق بين كاتب متعفف وبين كاتب مُتعهِّر أن الأول مثقل بواجب، والآخر مثقل به ذلك الواجب ...
4. العشق الدنيء دنيء مرتين؛ حتى إن المرأة الساقطة لو أخلصت الحب لرجل من عشاقها، لسقطت مرة ثانية في رأى الباقين.
5. تمام بعض اللذات في الحرمان من بعض اللذات.
6. كُن ِ الرجلَ في معانيه القوية فلن تجد المرأة معك إلا في أقوى معانيها.
7. كان عمر بن الخطاب ـ وفي يده الدنيا ـ يشتهي الشهوة من الطعام ثمنها درهم، فيؤخرها سنة. يُثبت لنفسه بذلك أنها نفس عمر.
8. ليس الذي ينتحر هو صاحب النفس العاملة المؤمنة بإيمانها؛ فإن هذا تنتحر شهواته،ومطامعه، وخسائسه.
9. يكبر بعض الأدباء من صِغر المحيطين بهم؛ قالوا: بعرت شاة حول قطعة من حجر، فنطقت بعرة فقالت للحجر: يا ما أعظمك أيها الجبل الشامخ...
10. لو كنتُ قاضيا ورفع إليّ شاب يجرأ على امرأة فمسها أو احتك بها أو طاردها أو أسمعها، وتحقق عندي أن المرأة كانت سافرة مدهونة مصقولة متعطرة متبرجة ـ لعاقبتُ هذه المرأة عُقوبتين؛ إحداهما بأنها اعْتدت على عفة الشاب...، والثانية بأنها خرقاء كشفت اللحم للهِّر...
11. دجاجة القفص امرأة متحجبة في نظر الثعلب؛ وحجابها جهل وحماقة ورجعية وتخلف عن زمن الثعالب...
12. أصوب الصواب عند المأفون غلطة تجلب له الشهرة.
13. ما أعجب تناقض المرأة! هي تريد أن تستقل فتخرج عن طاعة الرجل، وهي لا تسعد إلا حين تجد رجلا تشعر من حبه بوجوب طاعته.
14. الرذيلة الصريحة رذيلة واحدة، ولكن الفضيلة الكاذبة رذيلتان.
15. إذا رأيت شباب أمة يتنبلون بالثياب والزينة، فاعلم أنها أمة كذب ونفاق: يغطون الحقيقة الرخيصة بالثوب الغالي، ويكذبون حتى على الأعين.

كلمة وكليمة في السياسة!
1. إذا رأيت كُبراء قوم همهم عيشهم؛ فاعلم أنها أمة مأكولة. فلو شَهَرَتِ السيف الماضي لقاَتَلَ بروح مِلْعقة..ولو رعدتْ بالأُسطول الجبار لصلصل كآنيةِ المطبخ ِ...
2. رُبَّ قانون تُحكم به أُمة؛ ولو أنّهم حاكموه لاعتبروه كالشُّروع في قتل هذه الأمة.
3. أضيعُ الأمم أمة يختلف أبناؤها. فكيف بمن يختلفون حتى في كيف يختلفون...؟
4. إذا أسندت الأمة مناصبها الكبيرة إلى صغار النفوس، كبرت بها رذائلهم لا نفوسهم...
5. شر المصلحين رجل مُسلَّطُ على أمة يحكمها بعقل كبير فيه موضع فكرة مجنونة(1)...
6. إذا فسق الحاكم، فقد حكم الفسقُ.
7. رأيت القوانين كملاجئ اللقطاء، هذه تُربي صغار الأطفال، وتلك تربي صغار الجرائم...
8. رؤية الكبار شُجعانا هي وحدها التي تُخرج الصغار شُجعانا. ولا طريقة غيرُ هذه في تربية شجاعة الأمة.
9. الوعد السياسي جريء في الكذب، جريء في الاعتذار، حتى إنه ليعد بإحضار القمر حين يستغني عنه الليل في آخر الشهر...فإذا لم يجيؤوا به قالوا: سيتركه الليل في الشهر القادم.
10. من مصائب هذا الشرق أن الخصام السياسي فيه لا يدل على سياسة...تبرأ متبوع من تابع فاختصما، فكانا كرجل وحذائهُ؛ يقول الرجل: أنا خلعت الحذاء، ويقول الحذاء: بل أنا خلعت الرجل...
11. أرادوا مرة امتحان السياسيين في بلاغة السياسة، فطرحوا عليهم هذا الموضوع:
سرقت حقوق أمة ضعيفة، فاكتب كيف تشكرها على هديتها...
21. يقول أهل السياسة أحيانا في الاعتذار إلى الضعفاء المساكين: أيها العقلاء! إن هذا لا يمكن أن يحدث.
والمعنى السياسي: أيها البُله! إنه لا يمكن أن يحدث إلا هذا...
نقله أخوكم أبو المظفر15/5/1424هـ 

الثلاثاء، ١ نوفمبر ٢٠١١

عاصفة القدر


على شاطئ النيل في إقليم "الغربية" من هذا البر، قرية ليس فيها من جبل، ولكن روح الجبل في رجل من أهلها، فإذا أنت اعتبرته بالرجال قوة وضعفًا رأيته ينهض فيهم بمنكبيه نهضة الجبل فيما حوله؛ وهو بطل القرية ولواء كل معركة تنشب فيها بين فتياتها وبين فتيان القرى المتناثرة حولها؛ ولا تزال هذه المعارك بين شبان القرى كأنها من حركة الدم الحر الفاتح المتوارث فيهم من أجيال بعيدة ينحدر من جبل إلى جبل وفيه تلك القطرات الثائرة التي كانت تغلي وتفور، وهي كعهدها لا تزال تفور وتغلي، ويلقبون هذا الرجل الشديد "بالجمل"؛ لما يعرفونه من جسامة خلقه وصبره على الشدائد، واحتماله فيها، وكونه مع ذلك سلس القياد سليم الفطرة رقيق الطبع؛ على أنه أبطش ذي يدين إن ثار ثائره، وله إيمان قوي يستمسك به كما يتماسك الجبل بعنصره الصخري، إلا أنه يخلطه ببعض الخرافات؛ إذ لابد له من بعض الجرائم الشريفة التي يمل عليها فرط القوة والمروءة في مثله مع مثله.
وليس في تلك القرية من بحر، غير أن فيها شابًا أعنف طيشًا وعتوًا من الموجة على بحرها في يوم ريح عاتية، حلو المنظر لكنه مر الطعم، صافي الوجه لكن له غورًا بعيدًا من الدهاء والخبث، وهو ابن عمدة البلدة وواحد أبويه والوارث من دنياهما العريضة، يبسط يديه على خمسمائة فدان، وقد أفسدته النعمة وأهانته عزته على أهله؛ ولو اجتمعت حسنتان التخرج منهما سيئة من السيئات بأسلوب من الأساليب، لما وسعها إلا أسلوب نشأته من أبويه الطيبين، تعلم وهو يعرف أنه لا حاجة به إلى العلم، فجعلت تلفظه المدارس واحدة بعد واحدة كأنه نواة ثمرة إنسانية فإذا قيل له في ذلك قال: إن خمسمائة فدان لا تسعها مدرسة.... وذهب إلى فرنسا يطلب العلم الذي استعصى عليه في مصر، فأرهف ذلك العلم خياله وصقل حسه، ورجع من باريس رقيق الحاشية خنثًا متطرفًا لا يصلح شرقيًا ولا غربيًا!
وليس في تلك القرية غاية لكن فيها عذراء تلتف من جسمها في رداء الجمال الطبيعي الرائع، ولها نفس أشد وعورة مما تنطوي الغابة عليه؛ ففي ظاهرها الرونق الذي يفتن فيجذب إليها، وفي باطنها القوة التي تلتوي فتدفع عنها؛ وهي ابنة عم "الجمل" واسمها "خضراء" وكأن فيها زهو خضرة الربيع، ولم تكن تعشق إلا القوة، فما يزين لها من الرجال إلا ابن عمها، وهي شديدة الإعجاب به، وإنما إعجاب المرأة برجل من الرجال مفتاح من مفاتيح قلبها.
وكانت "خضراء" جاهلة كنساء القرى، بيد أنها تلميذة بارعة للطبيعة التي نشأت فيها وزاولت أعمالها؛ فهي بذلك أقوى نفسًا وأشد مراسًا من الفتيات المتعلمات؛ إذ اتخذت شكلًا ثابتًا من أشكال الحياة، والحياة هي صنعتها هذه الصنعة أو قامتها على هذه الهيئة، على حين أن المتعلمات يمضين أيام النشأة وسن الغريزة في التلقي عن الألفاظ والكتب، وفي توهم الصور المختلفة للاجتماع دون مباشرتها وفي توقي أعمال الحياة بدلًا من مخالطتها؛ فيؤول ذلك منهن إلى قوة في التخيل قلما ترضي الحقيقة الإنسانية المؤلمة حين تصادمها يومًا ما؛ وتتم الواحدة منهن، ولكن باعتبار أنها تمت تلميذة للمدرسة لا امرأة للحياة بما فيها مما يعجب وما لا يعجب.

وكانت خضراء أشبه بدورة النهار: تفتح أجفانها على أشعة الفجر كل يوم، ولا تزال نهارها في دأب وعمل، فنفى ذلك عن أخلاقها ما يجلبه السكون من الخمول والميل إلى العبث والدعابة، وحصلت لها من الحياة حقيقة عرفت منها أن المرأة عامل من أكبر العوامل في النظام الإنساني؛ عليه أن يصبر على الكد والتعب إذا أراد أن يظهر بطبيعته الحقيقية لا بطبيعته المزورة المصنوعة؛ ورأت الرجل يستأثر بجلائل الأعمال ولا يترك للمرأة إلا كما يترك عقرب الساعات لعقرب الثواني في الرقعة التي تجمعها؛ فهذا الصغير لا يبرح يضطرب في "دائرته الضيقة" يهتز من جزء إلى جزء، حتى إذا أتم الدقيقة في ستين هزة كاملة ذهب الأول بفضلها كلها وخطا بها خطوة واحدة: ثم يعود المستضعف المسكين إلى مثل عمله ولا يزال دأبهما وإن أكثرهما عملًا وتبعًا هو أقلهما قيمة وظهورًا؛ ولكن هذا الضعيف المغبون لم ينله ما ناله إلا من كونه هو وحده الذي بني في هذا النظام على فضيلة الصبر والدقة، ليكون أساسًا للآخر؛ فعرفت "خضراء" كيف تقيد طبيعتها من تلقاء نفسها، وتقرها على الصبر والرضا والسكون إلى حظها الطبيعي والاغتباط به؛ إذ كان فضل الرجل على المرأة ليس في كونه أكثر منها فضلًا أو أسباب فضل، بل في كونها هي أكثر منه حبًّا وتسامحًا وصبرًا وإيثارًا؛ ففضائلها الحقيقية هي التي جعلته الأفضل، كما تجوع الأم لتطعم ابنها!.
ورآها "ابن العمدة" ولما تمض أيام على رجوعه من أوربا، وقد لبث هناك بضع سنين، وكان عهده بالفتاة صغيرة، فوثبت إلى نفسه في وثبة واحدة، ورأى شبابًا وجمالًا وروعة زينتها في قلبه، وسولت له مطمعًا من المطامع، وجعلته يرى ما يرى بمعنى ويفهم منه ما يفهم بمعنى غيره.

وكانت حين رآها واقفة على النيل تملأ جرتها مع نساء من قومها وهن يتعابثن ويتضاحكن، كأن لخصب الأرض في أرواحهن أثرًا باديًا، فإذا ما أقبلن على النهر لشأن من شؤونهن تندت روح الماء على ذلك الأثر فاهتز واهتزت المرأة به، فإن كانت ذات مسحة من جمال رأيت لها رفيفًا كرفيف الزهرة حين يمسحها الندى، وذهبت تتموج في جسمها، وقد حسرت عن ذراعيها، ولمس الماء دمها الجذاب فأرسل فيه تيارًا من العافية والنشاط يتصل منها بقلب من يراها إن هو كان شاعرًا يحس؛ فإن كانت روح الرجل ظمأى ورأى المرأة على هذه الهيئة، فما أحسبه إلا يشرب منها بعينيه شربًا يجد له في قلبه نشوة كنشوة الخمر؛ وكذلك وقعت الفتاة من نفس هذا الفتى فزينها له الخبث الذي فيه أضعاف ما زينها له الجمال الذي فيها، وقذفها القدر إلى قلبه ليخرج من هذا القلب تاريخ جريمة؛ فوقف يتأملها بعين أحد من آلة التصوير لا تفوتها حركة، وسلط عليها فكره وذوقه، وأيقظ لها في نفسه المعاني الراقدة، فنصبت في قلبه عدة من تماثيل الجمال تجسدت في كل واحد منها على شكل كأنما أفرغت فيه إفراغًا.
وكانت نفس ابن العمدة من النفوس الخيالية المتوثبة؛ إذ قامت من نشأتها على أن تطلب فتجاب، وتأمر فتطاع، وتشتهي فتجد؛ وكأنه ما خلق إلا ليستعيد قلبي والديه، وكانا ساذجين لا يعرفان من علم التربية إلا أن للحكومة مدارس للتربية، وموسرين لا يفهمان من معنى الحاجة في هذه الدنيا إلا أنها الحاجة إلى المال، منقطعين من النسل إلا منه، فكأنه لم يولد لهما، بل قد ولدا له.. فله الأمر عليهما من كونه لا أمر لهما عليه؛ وبذلك أسرف له من فضائل الرقة والحنان والإشفاق وما إليها، وهي في نفسها فضائل، ولكن متى أسرف بها الآباء على أولادهم لم تنشئ في أولادهم إلا مما يكون من أضدادها، كالشجر تفرط عليه الري فلا يحدث فيه إلا اليبس والذوي، وإنما أنت تستقيه الموت ما دمت ترويه بمقدار من هواك بمقدار حاجته.
ونشأ الفتى في أحوال اجتماعية مختلفة جعلت من أخص طباعه تمويه نفسه على الناس، والتباهي بالغنى، والتنبل بالأصدقاء والحاشية من وزرائه وعماله، والتهيؤ بالثياب والأزياء؛ فانصرف باطنه إلى تجميل ظاهره، ورد ظاهره على باطنه بالشهوات والدنايا، وأعانه على ذلك أنه جميل فاتن كأنما خلقت صورته "للصفحة الحساسة" من قلوب النساء؛ وذلك ملك عظيم لم يكن أبوه الرجل الطيب منه إلا كما يكون وزير مالية الدولة.. ولما أرسل إلى باريس وقع منها في بلد عجيب كأنه خيال متخيل لا يؤمه رجلًا في الدنيا من كامل أو ناقص وعالم أو جاهل وشريف أو ساقط إلا رأى فيه ما يملأ كل مداخل نفسه ومخارجها، فلو قامت مدينة من أحلام النفوس الإنسانية في خيرها وشرها وطهرها وفجورها واختلالها ونظامها لكانت هي باريس؛ وانقطع الشاب هناك إلى نفسه وإلى صور نفسه من أصدقاء السوء، فلا أهل فيلزموه الفضيلة، ولا إخوان فيردوه إلى الرأي، ولا خلق متبين فيعتصم به، ولا نفس مرة فيفيء إليها، ولا فقر... فيحد له حدودًا في الشهوات يقف عندها؛ وما هو إلا خيال متوقفد ومزاج مشبوب وتربية مدللة وطبع جريء ومال يمر في إنفاقه، ومن ورائه أب غني مخدوع كأنه في يد ابنه كرة الخيط: كلما جذب منها مدت له مدًا، ثم ما هنالك من فنون الجمال ومتع اللذات وأسباب اللهو، مما يتناهى إليه فساد الفاسد، وما هو في ذاته كأنه عقوبة مستأصلة للأخلاق الطيبة؛ فكان الشيطان الباريسي من هذا المسكين في سمعه وبصره ورجله ويده، ويجهه حيث شاء؛ وبالجملة فقد ذهب ليدرس فدرس ما شاء ورجع أستاذًا في كل علوم النفس المختلة الطائشة وفنونها، وأضاف إلى هذه وتلك كلمات يلوي بها لسانه من علوم وأقاويل ليس فيها إلا ما ما يدل الحاذق على أن هذا الشاب لم يفلخ قط في مدرسة.

فلما وقعت "خضراء" منه ذلك الموقع وأخذت مأخذها في نفسه، اعتدها نزوة من نزواته؛ فما بمثله أن يحب مثلها، ولا هي كفايته في شيء إلا أن تكون لهو ساعة من ساعاته، أو حادثة تجري فيها حال من أحواله الغرامية؛ وحسبها امرأة ليس لقلبها أبواب تمتنع على مثله، فقدر أن غناه وفقرها يقتلعان بابًا، وعلمه وجهلها يحطمان بابًا آخر، وجماله وحده يضع ما بقي من الأقفال عما بقي من الأبواب! وكان يحسب أن جمال المرأة من المرأة كالحلية من بائعيها؛ فكل من ملك ثمنها فليس بينه وبينها إلا هذا الثمن؛ ولكن الأيام جعلت تأتي وتمر وهو لا يزيد على أن يعرض لها وهي ترميه من صدودها كل يوم بداعية من دواعي الهوى؛ وكان لا يجد بنفسه قوة أن يزيدها على النظر شيئًا، وترك لوجهه وثيابه ونظراته وغناه أن تصل بين قلبه وقلبها بسبب، فلم ينل طائلًا؛ وتمادى في حبه، واستولت عليه فكرة مرته بهذه المرأة؛ أما هي فأشعرتها غريزتها بما في قلبه منها، وكانت مسماة لابن عمها* فكانت تتحاشى هذا الشاب وتحذره حذرًا شديدًا، وتتوهم أن الناس يحصون عليها النظرة والالتفاتة ويحصون عليه في مثلهما، ووقع في نفسها أن لهذا الرجل شأنًا غير شأن الرجال الآخرين، فهم لا يستطيعون معها حيلة وهو يستطيعها بغناه ومنزلته.

وكان للرجل خادم داهية قد تخرج في مجالس القضاء.. من كثرة ما حكم عليه في تزوير واحتيال وغش وادعاء وإنكار ونحوها، وقد استخلصه لنفسه واتخذه موانسًا ورفيقًا؛ وجعله دسيسًا** إلى شهواته السافلة وكان يسميه فيما بينهما "إبليس"؛ فلما أراد أن يرميها به قال: يا سيدي، هذه قضية احتيال عليها، فإذا دخل ابن عمها خصمًا في الدعوى كانت قضية احتيال على عمري أنا! قال: ويحك أيها الأبله! فأين دهاؤك ومكرك؟ وإنما أرسلك إلى امرأة فقيرة عيشها كفافها، وأنت تعدها وتمشيها وتبذل عني ما شئت، ومتى أطمعتها في المال فإن هذا المال سيوجد ما يوجده في كل مكان، فيشري ما لا يشرى، ويبيع ما لا يباع! قال "إبليس": نعم يا سيدي، وكذلك هو ولكن خوف العار يطرد حب المال! قال: فأنت إذن لا تقبل؟ قال: ولا أرفض.. قال الشاب: قاتلك الله! لقد فهمت سأشتريها منك بثمنين: أحدهما لك والآخر لها؛ ولكن أخبرني كيف تصنع معها ومن أين تبلغ إليها؟ قال "إبليس": لما كنت في السجن عرفت لصًّا فاتكًا أعيا قومه خبثًا وشرًّا؛ وهذا السجن يحسبه عقابًا وردعًا ومنهاة عن الإثم، على أنه المدرسة التي تنشئها الحكومة بنفسها لتلقي علوم الجريمة عن كبار أساتذتها؛ إذ لا يمكن أن يجتمع كبارهم في مكان من الأرض إلا فيه؛ فالسجن طريقة من طرق حل المشكلة الإنسانية، ولكنه هو نفسه يحدث للإنسانية مشكلة لا تحل! قال الفتى: ويحك! أين يذهب بك؟ إنما أرسلك إلى المرأة إلى السجن! قال: ترسلني أنت إليها ولكن لا يعلم إلا الله أين يرسلني ابن عمها: إلى السجن أم إلى المستشفى..! فاسمع يا سيدي: كان من نصائح أستاذي في ذلك السجن: أن الحيلة على رجل ينبغي لإحكامها أن يكون في بعض أسبابها امرأة، والكيد لامرأة يجب أن يكون في بعض وسائله رجل.. صه! انظر انظر!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ* معدة لخطبته، أو كما يقولون: قرأت مع أهلها الفاتحة.
** جاسوسًا وصاحب سر.

فالتفت الشاب، فإذا "الجمل" مقبل يتكفأ في مشيته، وكان غليظًا، فإذا خطا شد على الأرض بقدميه وتكدس بعضه في بعض؛ وكان منطلقًا وقتئذ إلى بعض مذاهبه، فلما حاذاهما قال: السلام عليكم! فرد جميعًا، ورمى ابن العمدة بنظرة، ثم مضى لوجهه فلم يجاوز غير بعيد حتى بلغه صوت الشاب يناديه: يا فلان! فانكفأ إليه، فقال له الشاب: لقد بعد عهدك بالقوة على ما أرى. قال: فما ذاك؟ قال: أما بلغك أن فلانًا في هذه القرية التي تجاوزنا سيقترن بزوجته بعد أيام، وأنت تعرف الموقعة التي كانت بيد بلدنا وتلك البلدة يوم عرس فلان في السنة الماضية، وكيف اندفعوا على أهل بلدنا وحطموا فيهم تلك الحطمة الشديدة ولولا أنت أدركتهم ورميتهم بنفسك حتى دفعتهم عن الناس وسقتهم أمامك سوق النعاج، لكانت بلدنا اليوم أذلّ البلاد، ولاستطالوا علينا بأنهم غلبونا؛ ولقد حدثني صاحبي هذا كيف تلقيت بهراوتك يومئذ خمسًا وعشرين هراوة، فأطرتها كلها في جولتك، وهزمت أصحابها بعد أن أحاطوا بك وتكلبوا عليك؛ فأنت فخر بلدنا وصاحب زعامتها، وما أرى لك إلا أن تنتهز هذه الفرصة وتسرع الوثنية إليهم برجالك، فتجزيهم في أرضهم صنيعًا بصنع مثله!
فهز الجمل كتفيه العريضتين وقال: بل سأنتظرهم في يوم عرسي بابنة عمي...! قال الشاب: أبلغت ما أرى فإنك لتخافهم! قال: لا أخافهم ولكن أخاف الحكومة أن تؤخر يوم زواجي... سنة أو سنتين! قال الفتى: فإن عملك هذا لا يشد من نفوس رجالنا، ولا بد أن أولئك سينتظرونكم ويعدون لكم، فإذا لم تناجزوهم في بلدهم عدوها عليكم هزيمة من الهزائم، وكأنهم ضربوكم بلا ضرب!

قال الجمل: هم لا يعرفون معنى الضرب بلا ضرب؛ لأنهم رجال؛ والذي يضرب بلا ضرب لا يكون رجلًا... والسلام عليكم! ثم انطلق، فلما أبعد قال الشاب: لقد بدأت الحرب ولا بد لي أن أحطم هذا الفلاح اللعين! ولقد عرفت الآن من وجهه أن عينه علي، ولست أشك في أن بنت عمه لا تمتنع بقوتها بل بقوته، ولولا معرفتي أنه من انحطاط الغريزة كالوحش في الدفاع عن أنثاه لقال "إبليس": لقد تأملت القصة فرأيت أنه لا سبيل لك إلى الفتاة وهي بعد فتاة، فإذا هو وصل إلى امرأته قطعت أنت بهذه الخطوة نصف الطريق إليها... وستبلو هي من غلظته وخشونة طبيعة ما يسهل لك أن تعلمها قيمة ظرفك ورقتك، وستجد من سوء معاملته وقبح تسلطه ما يفتح قلبها لمن يأتيها قبل الرفق واللين، وستصب عنده من ضيق المعيشة وقلتها ويبسها ما يفهمها معنى ذلك العيش الحلو الخضر الذي تعرضه عليها؛ ثم إنه لا بد مبتليها بغيرته العمياء بعد ما عرف من حبك إياها، والغيرة منك هي توجدك بينهما دائمًا وتنبه المرأة إليك كلما كرهت من رجلها شيئًا لا ترضاه.

ولم تكن إلا مدة يسيرة حتى أهديت المرأة إلى زوجها، وإنما تعجل الزفاف ليأتي أنه أن ينصب يده القوية حجابًا بينهما وبين هذا المفتون، وليكتسب من القانون حقًّا لم يكن له من قبل إذا هو مد هذه اليد وعصر في قبضتها تلك الرقبة التي تتطلع إلى امرأته؛ ورأى الشاب أن هذه الحال لا تعتدل به وبخصمه معًا، وكانت الغيرة تأكل من قلبه أكلًا، وكان يعرض للمرأة كلما خرجت بمكتلها* إلى السوق أو بجرتها إلى الماء؛ لأنه حينئذ يكون في الطريق الذي لا يملكه أحد.. فكانت إذا رأته لم تزد على ما يكون منها إذا هي أبصرت حمارًا يمد عينه إليها!. فعمد إلى امرأة مقينة تزف العرائس، وهي التي زفت "خضراء" فأكرمها وأتحفها وسألها أن تسعفه ببعض ما تحتال به، وأن يكون سبيله إلى المرأة؛ وتحمل عليها "بإبليسه" حتى استوثق منها، فكانت تتحدث عنه أمام "خضراء"؛ تستجر بذلك أن تلفتها إلى نعمته وجماله، ولكن المرأة أغلظت لها وسبتها وحذرتها أن تعود إلى مثل كلامها، وقالت لها آخر ما قالت: واعلمي أنني لو دفعت إلى طريقين وكان لا بد من أحدهما، ثم كان أحدهما حصاه الدنانير وهو طريق العار، والآخر حصباؤه الجمر ويفضي إلى الشرف، إذن لتنزهت أن أدنس نعلي بالذهب ولنثرت لحم قدمي على الجمر نثرًا.

والحب لا يبقى حبًّا أبدًا، فإما فاز فبرد ورجع سلوًا، وإما خاب فاضطرم وتحول إلى حقد ونقمة؛ وكذلك انفجر الشاب غيظًا، ووجد على الخيبة موجدة شديدة، وأخذ يدير رأيه، ففتقت له الحيلة أن يقتل الشهم بشهامته، والمرأة العفيفة بعفتها؛ فواطأ إبليسه على أن يدفع إلى تلك المقيَّنة منديلًا من الحرير عقد طرفه على دينار من الذهب، تلقيه في صندوق "خضراء" وتدسه في طي من أطواء ثيابها فذهبت المرأة، وما زالت بخضراء تستصلحها وتعتذر إليها حتى استلت ضغينة قلبها، ثم سألتها أن تأتيها "بالعيش والملح" لتصيب كلتاهما منه وتتحرم بحرمته؛ فلما نهضت تأتيها أسرعت الخبيثة إلى الصندوق فدست المنديل في أبعد مواضع وأخفاها؛ وكان مندّى بالعطر؛ لينم على نفسه إذا لم ينم أحد عليه، ثم رجعت بما فعلت إلى الشاب، فأطلق خادمه يهمس لبعض أصدقاء الجمل أنه رأى اليوم في يد "خضراء" دينارًا ذهبًا على ندرة الذهب وعزته؛ فجعل هذا الدينار يطير من نفس إلى نفس بقوة الذهب الذي فيه، والحب الذي أعطاه، والجمال الذي أخذه؛ ثم انتهى إلى الجمل، فكأنما حمله وطار به إلى داره كالمجنون وقد حمى دمه الحرُّ، وجاش جأشه العنيف ولم تكن امرأته في الدار، فنثر ما في الصندوق، وما كادت تفعمه رائحة العطر حتى نفخ الشيطان بها نفخة الغضب الكافر، ثم عثر على المنديل، ورأى بصيص الدينار، فدارت به الأرض، وأيقن أن العار قد طرق ببابه، وأن الباب قد فتح له؛ ثم رد نفسه على مكروهها ورد معها كل شيء إلى موضعه، وتلقف رأيه على جريمتين، وخرج وروحه تصرخ من ضربة بمنديل، وهو الذي كانت تتهاوى عليه الضربات القاتلة تهشم منه ولا يتأوه!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ* هو ما يسمى الغلق.
وذكر أن "حماته" أثنت من عهد قريب على ابن العمدة ووصفته بالرقة والغنى، فوجه إليها أن تأتي فتبيت عند امرأته؛ لأنه على سفر، وكان كالأعمى في ضلالته: لا يرى الأشياء إلا كما يتخيلها في نفسه دون ما هي في نفسها، فسألته زوجته: أين أزمعت من سفرك وكم تلبث عنا؟ فكأنه سمعها تقول: ارحل إلى مكان بعيد وغب عنا زمنًا طويلًا، فبنا إلى غيابك حاجة شديدة! وكاد يبطش بها، ولكنه كاتم صدره اللوعة اسم جهة بعيدة ومضى الانكسار يعرف فيه!
فزع الناس بعد أيام في جوف الليل، فإذا بيت الجمل يحترق من أرضه وسمائه، واقتحموه فإذا المرأة وأمها فحمتان: وانطلقت أسرار الألسنة، وقبض على الرجل في بلد آخر، وتولى ابن العمدة توجيه البينة عليه، وشهد الشهود على الدينار، وشهد الدينار على النار، وأنكر "الجمل" ولم يقصر في إقامة الحجة ودافع عن امرأته وبالغ في أمانتها وعفتها وشهد أنه لا يعلم عليها من سوء، وإنها أطهر النساء وأبرّهن، ثم كان الحكم أن قضى عليه بالموت شنقًا!
فلما كان يوم إنفاذ الحكم سئل الرجل: هل من شيء تريده؟ فطلب دخينة* فقدمها له قيم السجن، فأشعلها ونفخ من دخانها نفخة. ثم أخذ يتكلم وعمره يفنى مع الدخينة نفسًا في نفس، وعاد هذا الدخان المتطاير كأنه سحاب يسبح فيه الوحي بين حدود الدنيا وحدود الآخرة؛ قال المسكين: لم أتعلم، ولو تعلمت ما وقفت هنا؛ ولكن ربما كنت خرجت نذلًا كبعض المتعلمين الذين يعيشون أشرافًا وفيهم أرواح القتلة واللصوص!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ* وضعناها للسيجارة، وهي أليق الألفاظ بها.
لم أقر لأحد بجريمتي خشية أن تذكر كلمة العار مع اسمي، وآثرت أن أموت بالشنق على أن أحيا ويموت اسمي بالعار!
ولكني سأعترف الآن أمامكم وأنتم الساعة على قبري، فكونوا كالملائكة لا يشهدون بما عرفوا إلا عند الله وحده.
أعترف أني قتلت زوجتي وأمها؛ وقد تقولون: إنه ليس من عمل الرجل أن يقتل امرأة فضلًا عن اثنتين؛ إنني رجل سأشنق، أما النساء فلا يشنقن وإنما يرسلن الرجال إلى المشنقة.. لم أر أبي؛ إذ تركني طفلًا، ولكن يقال: إنه كان رجلًا، فأنا رجل وابن رجل، ولم يذلني رجل قط، ولكن لو خلق الله قوة مائة جبار في جسم رجل واحد لأذلته امرأة!
إنه ليس من شيمة الرجل أن يقتل النساء، ولكن المرأة تذل الرجل ذلًا يهون عليه قتل نفسه، فكيف لا يهون عليه قتلها؟
علموا المتعلمين ليصيروا في الشرف والأمانة والعفة كرجل جاهل مثلي: لا يرى للحياة كلها قيمة إذا كان فيها معنى العار، ويقدم عنقه للمشنقة حتى لا ينكس رأسه للذل.
أصلحوا القانون الذي يحكم بالموت شنقًا ويزهق الأرواح الكبيرة في حين تغلبه الأرواح الصغيرة بحيلها الدنيئة!
ومع ذلك سألقى الله وهو يعلم سريرتي إن كنت بريئًا أو مجرمًا!
قيم السجن: ستلقاه طاهرًا.
السجين: أرأيتم مني خلق سوء؟ أتعتقد علي ذنبًا مدة سجني؟
القيم: كلنا راضون عنك.
السجين: هذا مثل من أخلاقي، والحمد لله على أن آخر كلمة أسمعها من إنسان على الأرض- كلمة الرضا.
أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله!
نظرت ريشة من زغب العصفور إلى النجوم فحسبتها ريشًا متناثرًا، فامتطت العاصفة وقالت: إلى السماء! ودارت بها العاصفة ما شاء الله أن تدور، ثم رمت بها حيث وقعت لم تبال في موضع نفع أم ضر؛ فأقبلت الريشة تتسخط وتزعم أنها فوضى ثائرة لا حكمة في خلقها، وأن الرياح بعثرة في نظام العالم... وكان إلى جانبها شجرة تهتز ولا تطير... فلما وعت مقالتها أقبلت عليها فقالت: أيتها الريشة! إن الرياح لا تكون بعثرة في نظام العالم إلا إذا كان العالم ريشًا كله!



الاثنين، ٨ أغسطس ٢٠١١

حقيـــــــــقة المسلـــــــم ... !!


لا يعرف التاريخ غير محمد صلى الله عليه وسلم رجلًا أفرغ الله وجوده في الوجود الإنساني كله؛ كما تنصب المادة في المادة، لتمتزج بها فتحولها، فتحدث منها الجديد، فإذا الإنسانية تتحول به وتنمو، وإذا هو صلى الله عليه وسلم وجود سار فيها فما تبرح هذه الإنسانية تنمو به وتتحول.
كان المعنى الآدمي في هذه الإنسانية كأنما وهن من طول الدهر عليه، يتحيفه ويمحوه ويتعاوره بالشر والمنكر؛ فابتعث الله تاريخ العقل بآدم جديد بدأت به الدنيا في تطورها الأعلى من حيث يرتفع الإنسان على ذاته، كما بدأت من حيث يوجد الإنسان في ذاته؛ فكانت الإنسانية دهرها بين اثنين: أحدهما فتح لها طريق المجيء من الجنة، والثاني فتح لها طريق العودة إليها, كان في آدم سر وجود الإنسانية، وكان في محمد سر كمالها.
ولهذا سمي الدين "بالإسلام"؛ لأنه إسلام النفس إلى واجبها، أي إلى الحقيقة من الحياة الاجتماعية؛ كأن المسلم ينكر ذاته فيسلمها إلى الإنسانية تصرفها وتعتملها في كمالها ومعاليها؛ فلا حظ له هو من نفسه يمسكها على شهواته ومنافعه، ولكن للإنسانية بها الحظ.
وما الإسلام في جملته إلا هذا المبدأ, مبدأ إنكار الذات و"إسلامها" طائعة على المنشط والمكره لفروضها وواجباتها؛ وكلما نكصت إلى منزعها الحيواني، أسلمها صاحبها إلى وازعها الإلهي؛ وهو أبدًا يروضها على هذه الحركة ما دام حيا؛ فينتزعها كل يوم من أوهام دنياها، ليضعها ما بين يدي حقيقتها الإلهية, يروضها على ذلك كل يوم وليلة خمس مرات مسماة في اللغة خمس صلوات، لا يكون الإسلام إسلامًا بغيرها؛ فلا غرو كانت الصلاة بهذا المعنى كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم وهي عماد الدين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بين ساعات وساعات في كل مطلع شمس من حياة المسلم صلاة، أي إسلام النفس إلى الإرادة الاجتماعية الشاملة1 القائمة على الطاعة للفرض الإلهي، وإنكار لمعانيها الذاتية الفانية التي هي مادة الشر في الأرض، وإقرارها لحظات في حيز الخير المحض البعيد عن الدنيا وشهواتها وآثامها ومنكراتها، ومعنى ذلك كله تحقيق المسلم لوجود روحه؛ إذا كانت أعمال الدنيا في جملتها طرقا تتشتت فيها الأرواح وتتبعثر، حتى تضل روح الأخ عن روح أخيه فتنكرها ولا تعرفها!
وهذا الوجود الروحي هو مبعث الحالة العقلية التي جاء الإسلام ليهدي الإنسانية إليها, حالة السلام الروحاني الذي يجعل حرب الدنيا المهلكة حربا في خارج النفس لا في داخلها، ويجعل ثروة الإنسان مقدرة بما يعامل الله والإنسانية عليه؛ فلا يكون ذهبه وفضته ما كتبت عليه الدول: "ضرب في مملكة كذا"، ولكن ما يراه هو قد كتب عليه "صنع في مملكة نفسي"؛ ومن ثم لا يكون وجوده الاجتماعي للأخذ حسب، بل للعطاء أيضا، فإن قانون المال هو الجمع، أما قانون العمل فهو البذل.
بالانصراف إلى الصلاة وجمع النية عليها، يستشعر المسلم أنه قد حطم الحدود الأرضية المحيطة بنفسه من الزمان والمكان، وخرج منها إلى روحانية لا يحد فيها إلا بالله وحده.
وبالقيام في الصلاة، يحقق المسلم لذاته معنى إفراغ الفكر السامي على الجسم كله، ليمتزج بجلال الكون ووقاره، كأنه كائن منتصب مع الكائنات يسبح بحمده.
وبالتولي شطر القبلة في سمتها الذي لا يتغير على اختلاف أوضاع الأرض، يعرف المسلم حقيقة الرمز للمركز الثابت في روحانية الحياة؛ فيحمل قلبه معنى الاطمئنان والاستقرار على جاذبية الدنيا وقلقها.
وبالركوع والسجود بين يدي الله، يشعر المسلم نفسه معنى السمو والرفعة على كل ما عدا الخالق من وجود الكون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه هي حكمة صلاة الجماعة والحث عليها وكونها أفضل من غيرها وأن الثواب الأكبر فيها وحدها.
وبالجلسة في الصلاة وقراءة التحيات الطيبات، يكون المسلم جالسًا فوق الدنيا يحمد الله ويسلم على نبيه وملائكته ويشهد ويدعو.
وبالتسليم الذي يخرج به من الصلاة، يقبل المسلم على الدنيا وأهلها إقبالا جديدًا من جهتي السلام والرحمة.
هي لحظات من الحياة كل يوم في غير أشياء هذه الدنيا؛ لجمع الشهوات وتقييدها بين وقت وآخر بسلاسلها وأغلالها من حركات الصلاة، ولتمزيق الفناء خمس مرات كل يوم عن النفس؛ فيرى المسلم من ورائه حقيقة الخلود، فتشعر الروح أنها تنمو وتتسع.
هي خمس صلوات، وهي كذلك خمس مرات يفرغ فيها القلب مما امتلأ به من الدنيا، فما أدق وأبدع وأصدق قوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت قرة عيني في الصلاة"1.
لم يكن الإسلام في حقيقته إلا إبداعا للصيغة العلمية التي تنتظم الإنسانية فيها؛ ولهذا كانت آدابه كلها حراساً على القلب المؤمن، كأنها ملائكة من المعاني؛ وكان الإسلام بها عملًا إصلاحيًا وقع به التطور في عالم الغريزة، فنقله إلى عالم الخلق، ثم ارتقى بالخلق إلى الحق، ثم سما بالحق إلى الخير العام؛ فهو سمو فوق الحياة بثلاثة طبقات، وتدرج إلى الكمال في ثلاث منازل، وابتعاد عن الأوهام بمسافة ثلاث حقائق.
وبتلك الأعمال والآداب كانت الدنيا المسلمة التي أسسها النبي صلى الله عليه وسلم دنيا أسلمت طبيعتها، فأصبحت على ما أراد المسلمون لا ما أرادت هي؛ وكأنها قائمة بنواميس من أهليها، لا على أهليها؛ وكان الظاهر أن الإسلام يغزو الأمم بالعرب ويفتتحها، ولكن الحقيقة أن إقليما من الدنيا كان يحارب سائر أقاليم الأرض بالطبيعة الأخلاقية الجديدة لهذا الدين.

وكأن الله -تعالى- ألقى في رمال الجزيرة روح البحر، وبعثها بعثة الإلهي لأمره، فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو نقطة المد التي يفور البحر منها، وكان المسلمون أمواجه التي غسلت بها الدنيا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كان محمد صلى الله عليه وسلم يستبطئ الصلاة وقد جاء وقتها، من شدة شوقه إليها فيقول: "أرحنا بها يا بلال", ولا أفصح ولا أدق في تصوير نفسيته صلى الله عليه وسلم وأشواق روحه العالية من قوله: "أرحنا بها". فهذا كمال الاتصال بينه وبين خالقه.
لهذا سمع المسلمون الأولون كلام الله -تعالى- في كتابه، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لا كما يسمعون القول، ولكن كما يتلقون الحكم النافذ المقضي؛ ولم يجدوا فيه البلاغة وحدها، بل روعة أمر السماء في بلاغة؛ واتصلوا بنبيهم، ثم بعضهم ببعض، لا كما يتصل إنسان بإنسان، بل كما تتصل الأمواج بقوة المد، ثم كما يمد بعضها بعضا في قوة واحدة.
وحققوا في كماله صلى الله عليه وسلم وجودهم النفسي؛ فكانوا من زخارف الحياة وباطلها في موضع الحقيقة الذي يرى فيه الشيء لا شيء.
ورأوا في أرادته صلى الله عليه وسلم النقطة الثابتة فيما يتضارب من خيالات النفس؛ فكانوا أكبر علماء الأخلاق على الأرض، لا من كتب ولا علم ولا فلسفة، بل من قلب نبيهم وحده.

وعرفوا به صلى الله عليه وسلم تمام الرجولة؛ ومتى تمت هذه الرجولة تمامها في إنسان رجعت له الطفولة في روحه، وامتلك تلك الطبيعة التي لا يملكها إلا أعظم الفلاسفة والحكماء فأصبح كأنما يمشي في الحياة إلى الجنة بخطوات مسددة لا تزيغ ولا تنحرف، فلا شر ولا رذيلة؛ ودنياه هي الدنيا كلها بشمسها وقمرها، يملكها وإن لم يملك منها شيئا، ما دامت في قلبه طبيعة السرور، فلا فقر ولا غنى مما يشعر الناس بمعانيه، بل كل ما أمكن فهو غنى كامل، إذ لم تعد القوة في المادة تزيد بزيادتها وتنقص بنقصها، بل القوة في الروح التي تتصرف بطبيعة الوجود، وتدفع قوى الجسم بمثل دوافع الطفولة النامية المتغلبة، حتى لتجعل من النور والهواء ما يؤتدم به مع الخبز القفار، كما يؤتدم باللحم وأطايب الأطعمة1.
وبذلك لا تتسلط ضرورة على الجسم -كالجوع والفقر والألم ونحوها- إلا كان تسلطها كأنه أمر من قوة في الوجود إلى قوة في هذا الجسم, أن تظهر لتعمل عملها المعجز في إبطال هذه الضرورة. وهذا الجنس من الناس كالأزهار على أغصانها الخضر؛ لو قالت شيئا لقالت: إن ثروتي في الحياة هي الحياة نفسها، فليس لي فقر ولا غنى، بل طبيعة أو لا طبيعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ1 عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على "أم هانئ" وكان جائعًا، فقال لها: "أعندك طعام آكله؟" فقالت: "إن عندي لكسرا يابسة، وإني لأستحيي أن أقدمها إليك" فقال: "هلميها!"، فكسرها في ماء، وجاءته بملح، فقال: "ما من إدام؟" فقالت: "ما عندي إلا شيء من خل". فقال "هلميه!" فلما جاءت به صبه على طعامه فأكل منه، ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "نعم الإدام الخل يا أم هانئ، لا يقفر بيت فيه خل" اهـ.
ولقد كان المسلم يضرب بالسيف في سبيل الله, فتقع ضربات السيوف على جسمه فتمزقه؛ فما يحسها إلا كأنها قبل أصدقاء من الملائكة يلقونه ويعانقونه!
وكان يبتلى في نفسه وماله، فلا يشعر في ذلك أنه المرزأ المبتلى يعرف فيه الحزن والانكسار، بل تظهر فيه الإنسانية المنتصرة كما يظهر التاريخ الظافر في بطله العظيم أصيب في كل موضع من جسمه بجراح، فهي جراح وتشويه وألم، وهي شهادة النصر!
ولم تكن أثقال المسلم من دنياه أثقالًا على نفسه, بل كانت له أسباب قوة وسمو؛ كالنسر المخلوق لطبقات الجو العليا، ويحمل دائما من أجل هذه الطبقات ثقل جناحيه العظيمين.
وكانت الحقيقة -التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم مثلهم الأعلى، وأقرها في أنفسهم بجميع أخلاقه وأعماله- أن الفضائل كلها واجبة على كل مسلم لنفسه، إذ إنها واجبة بكل مسلم على غيره، فلا تكون في الأمة إلا إرادة واحدة متعاونة، تجعل المسلم وما هو روح أمته تعمل به أعمالها هي لا أعماله وحدها.
المسلم إنسان ممتد بمنافعه في معناه الاجتماعي حول أمته كلها، لا إنسان ضيق مجتمع حول نفسه بهذه المنافع؛ وهو من غيره في صدق المعاملة الاجتماعية كالتاجر من التاجر؛ تقول الأمانة لكليهما: لا قيمة لميزانك إلا أن يصدقه ميزان أخيك.
ولن يكون الإسلام صحيحا تماما حتى يجعل حامله مثلا من نبيه في أخلاق الله؛ فما هو بشخص يضبط طبيعته؛ يقهرها مرة وتقهره مرارًا؛ ولكن طبيعة تضبط شخصها فهي قانون وجوده.
لا يضطرب من شيء، وكيف يضطرب ومعه الاستقرار؟
لا يخاف من شيء، وكيف يخاف ومعه الطمأنينة؟
لا يخشى مخلوقا، وكيف يخشى ومعه الله؟
أيها الأسد! هل أنت بجملتك إلا في طبيعة مخالبك وأنيابك؟


الخميس، ٤ أغسطس ٢٠١١

شهر للثورة .. فلسفـــــــــــة الصيـــــــام


لم أقرأ لأحد قولا شافيا في فلسفة الصوم وحكمته، أما منفعته للجسم، وأنه نوع من الطب له، وباب من السياسة في تدبيره؛ فقد فرغ الأطباء من تحقيق القول في ذلك؛ وكأن أيام هذا الشهر المبارك إن هي إلا ثلاثون حبة تؤخذ في كل سنة مرة لتقوية المعدة وتصفية الدم وحياطة أنسجة الجسم؛ ولكنا الآن لسنا بصدد من هذا، وإنما نستوحي تلك الحقيقة الإسلامية الكبرى التي شرعت هذا الشرع لسياسة الحقائق الأرضية الصغيرة، عاملة على استمرار لفكرة الإنسانية فيها، كي لا تتبدل النفس على تغير الحوادث وتبدلها، ولكيلا تجهل الدنيا معاني الترقيع إذا أتت على هذه الدنيا معاني التمزيق.
من معجزات القرآن الكريم أنه يدخر في الألفاظ المعروفة في كل زمن، حقائق غير معروفة لكل زمن، فيجليها لوقتها حين يضج الزمان العلمي في متاهته وحيرته، فيشغب على التاريخ وأهله مستخفا بالأديان، ويذهب يتتبع الحقائق، ويستقصي في فنون المعرفة، ليستخلص من بين كفر وإيمان دينا طبيعيا سائغًا، يتناول الحياة أول ما يتناول فيضبطها بأسرار العلم، ويوجهها بالعلم إلى غايتها الصحيحة، ويضاعف قواها بأساليبه الطبيعية، ليحقق في إنسانية العالم هذه الشيئية المجهولة التي تتوهمها المذاهب الاجتماعية ولم يهتد إليها مذهب منها ولا قاربها؛ فما برحت سعادة الاجتماع كالتجربة العلمية بين يدي علمائها؛ لم يحققوها ولم ييأسوا منها، وبقيت تلك المذاهب كعقارب الساعة في دورتها؛ تبدأ من حيث تبدأ ثم لا تنتهي إلا إلى حيث تبدأ.
ويضطرب الاشتراكيون في أوربا وقد عجزوا عجز من يحاول تغيير الإنسان بزيادة ونقص في أعصابه؛ ولا يزال مذهبهم في الدنيا مذهب كتب ورسائل؛ ولو أنهم تدبروا حكمة الصوم في الإسلام، لرأوا هذا الشهر نظاما عمليا من أقوى وأبدع الأنظمة الاشتراكية الصحيحة؛ فهذا الصوم فقر إجباري تفرضه الشريعة على الناس فرضا ليتساوى الجميع في بواطنهم، سواء منهم من ملك المليون من الدنانير, ومن ملك القرش الواحد، ومن لم يملك شيئا؛ كما يتساوى الناس جميعا في ذهاب كبريائهم الإنسانية بالصلاة التي يفرضها الإسلام على كل مسلم؛ وفي ذهاب تفاوتهم الاجتماعي بالحج الذي يفرضه على من استطاع.
فقر إجباري يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح، أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون, وحين يتعاطفون بإحساس الألم الواحد لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة.
ولو حققت لرأيت الناس لا يختلفون في الإنسانية بعقولهم، ولا بأنسابهم، ولا بمراتبهم، ولا بما ملكوا؛ وإنما يختلفون ببطونهم وأحكام هذه البطون على العقل والعاطفة، فمن البطن نكبة الإنسانية، وهو العقل العملي على الأرض؛ وإذا اختلف البطن والدماغ في ضرورة، مد البطن مده من قوى الهضم فلم يبق ولم 
يذر.

ومن ههنا يتناوله الصوم بالتهذيب والتأديب والتدريب، ويجعل الناس فيه سواء؛ ليس لجميعهم إلا شعور واحد وحس واحد وطبيعة واحدة؛ ويحكم الأمر فيحول بين هذا البطن وبين المادة، ويبالغ في إحكامه فيمسك حواشيه العصبية في الجسم كله يمنعها تغذيتها ولذتها حتى نفثة من دخينة

وبهذا يضع الإنسانية كلها في حالة نفسية واحدة تتلبس بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يعلم الرحمة ويدعو إليها، فيشبع فيها بهذا الجوع فكرة معينة هي كل ما في مذهب الاشتراكية من الحق, وهي تلك الفكرة التي يكون عنها مساواة الغني للفقير من طبيعته، واطمئنان الفقير إلى الغني بطبيعته؛ ومن هذين: "الاطمئنان والمساواة"، يكون هدوء الحياة بهدوء النفسين اللتين هما السلب والإيجاب في هذا الاجتماع الإنساني؛ وإذا أنت نزعت هذه الفكرة من الاشتراكية بقي هذا المذهب كله عبثا من العبث في محاولة جعل التاريخ الإنساني تاريخا لا طبيعة له.

من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ من الألم، وهذا بعض السر الاجتماعي العظيم في الصوم، إذ يبالغ أشد المبالغة، ويدقق كل التدقيق، في منع الغذاء شبه الغذاء عن البطن وحواشيه مدة آخرها آخر الطاقة؛ فهذه طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس، ولا طريقة غيرها إلا النكبات والكوارث؛ فهما طريقتان كما ترى: مبصرة وعمياء وخاصة وعامة، وعلى نظام وعلى فجأة.
ومتى تحققت رحمة الجائع الغني للجائع الفقير، أصبح للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانها النافذ، وحكم الوازع النفسي على المادة؛ فيسمع الغني في ضميره صوت الفقير يقول: "أعطني" ثملا يسمع منه طلبا من الرجاء، بل طلبا من الأمر لا مفر من تلبيته والاستجابة لمعانيه، كما يواسي المبتلى من كان في مثل بلائه.
أية معجزة إصلاحية أعجب من هذه المعجزة الإسلامية التي تقضي أن يحذف من الإنسانية كلها تاريخ البطن ثلاثين يوما في كل سنة, ليحل في محله تاريخ النفس؟ وأنا مستيقن أن هناك نسبة رياضية هي الحكمة في جعل هذا الصوم شهرًا كاملًا من كل اثني عشر شهرًا، وأن هذه النسبة متحققة في أعمال النفس للجسم, وأعمال الجسم للنفس؛ كأنه الشهر الصحي الذي يفرضه الطب في كل سنة للراحة والاستجمام وتغيير المعيشة، لإحداث الترميم العصبي في الجسم, ولعل ذلك آت من العلاقة بين دورة الدم في الجسم الإنساني وبين القمر منذ يكون هلالًا إلى أن يدخل في المحاق؛ إذ تنتفخ العروق وتربو في النصف الأول من الشهر، كأنها في "مد" من نور القمر ما دام هذا النور إلى زيادة، ثم يراجعها "الجزر" في النصف الثاني حتى كأن للدم إضاءة وظلاما، وإذا ثبت أن للقمر أثرا في الأمراض العصبية، وفي مد الدم وجزره، فهذا من أعجب الحكمة في أن يكون الصيام شهرًا قمريا دون غيره.
وفي ترائي الهلال ووجوب الصوم لرؤيته معنى دقيق آخر، وهو -مع إثبات رؤية الهلال وإعلانها- إثبات الإرادة وإعلانها، كأنما انبعث أول الشعاع السماوي في التنبيه الإنساني العام لفروض الرحمة والإنسانية والبر.

وهنا حكمة كبيرة من حكم الصوم، وهي عمله في تربية الإرادة وتقويتها بهذا الأسلوب العملي، الذي يدرب الصائم على أن يمنع باختياره من شهواته ولذة حيوانيته، مصرا على الامتناع، متهيئا له بعزيمته، صابرًا عليه بأخلاق الصبر, مزاولا في كل ذلك أفضل طريقة نفسية لاكتساب الفكرة الثابتة ترسخ لا تتغير ولا تتحول، ولا تعدو عليها عوادي الغريزة.
وإدراك هذه القوة من الإرادة العملية منزلة اجتماعية سامية، هي في الإنسانية فوق منزلة الذكاء والعلم، ففي هذين تعرض الفكرة مارة مرورها، ولكنها في الإرادة تعرض لتستقر وتتحقق. فانظر في أي قانون من القوانين، وفي أية أمة من الأمم, تجد ثلاثين يوما من كل سنة قد فرضت فرضا لتربية إرادة الشعب ومزاولته فكرة نفسية واحدة بخصائصها وملابساتها حتى تستقر وترسخ وتعود جزءا من عمل الإنسان، لا خيالًا يمر برأسه مرا.
أليست هذه هي إتاحة الفرصة العملية التي جعلوها أساسا في تكوين الإرادة؟ وهل تبلغ الإرادة فيما تبلغ، أعلى من منزلتها حين تجعل شهوات المرء مزعنة لفكره، منقادة للوازع النفسي فيه، مصرفة بالحس الديني المسيطر على النفس ومشاعرها.
أما -والله- لو عم هذا الصوم الإسلامي أهل الأرض جميعا، لآل معناه أن يكون إجماعا من الإنسانية كلها على إعلان الثورة شهرًا كاملا في السنة، لتطهير العالم من رذائله وفساده، ومحق الأثرة والبخل فيه، وطرح المسألة النفسية ليتدارسها أهل الأرض دراسة عملية مدة هذا الشهر بطوله، فيهبط كل رجل وكل امرأة إلى أعماق نفسه ومكامنها، ليختبر في مصنع فكره معنى الحاجة ومعنى الفقر، وليفهم في طبيعة جسمه -لا في الكتب- معاني الصبر والثبات والإرادة، وليبلغ من ذلك وذلك درجات الإنسانية والمواساة والإحسان، فيحقق بهذه وتلك معاني الإخاء والحرية والمساواة.

شهر هو أيام قلبية في الزمن؛ متى أشرفت على الدنيا قال الزمن لأهله: هذه أيام من أنفسكم لا من أيامي، ومن طبيعتكم لا من طبيعتي، فيقبل العالم كله على حالة نفسية بالغة السمو، يتعهد فيها النفس برياضتها على معالي الأمور ومكارم الأخلاق, ويفهم الحياة على وجه آخر غير وجهها الكالح، ويراها كأنما أجيعت من طعامها اليومي كما جاع هو، وكأنما أفرغت من خسائسها وشهواتها كما فرغ هو، وكأنما ألزمت معاني التقوى كما ألزمها هو, وما أجمل وأبدع أن تظهر الحياة في العالم كله -لو يوما واحدًا- حاملة في يدها السبحة! فكيف بها على ذلك شهرًا من كل سنة؟
إنها -والله- طريقة عملية لرسوخ فكرة الخير والحق في النفس؛ وتطهير الاجتماع من خسائس العقل المادي؛ ورد هذه الطبيعة الحيوانية المحكومة في ظاهرها بالقوانين، والمحررة من القوانين في باطنها إلى قانون من باطنها نفسه يطهر مشاعرها، ويسمو بإحساسها، ويصرفها إلى معاني إنسانيتها، ويهذب من زياداتها، ويحذف كثيرا من فضولها، حتى يرجع بها إلى نحو من براءة الطفولة، فيجعلها صافية مشرقة بما يجتذب إليها من معاني الخير والصفاء والإشراق؛ إذ كان من عمل الفكرة الثابتة في النفس أن تدعو إليها ما يلائمها ويتصل بطبيعتها من الفكر الأخرى. والنفس في هذا الشهر محتبسة في فكرة الخير وحدها، فهي تبني بناءها من ذلك ما استطاعت.
هذا على الحقيقة ليس شهرًا من الأشهر، بل هو فصل نفساني كفصول الطبيعة في دورانها؛ ولهو -والله- أشبه بفصل الشتاء في حلوله على الدنيا بالجو الذي من طبيعته السحب والغيث، ومن عمله إمداد الحياة بوسائل لها من بعدها إلى آخر السنة، ومن رياضته أن يكسبها الصلابة والانكماش والخفة، ومن غايته إعداد الطبيعة للتفتح عن جمال باطنها في الربيع الذي يتلوه.

وعجيب جدا أن هذا الشهر الذي يدخر في الجسم من قواه المعنوية فيودعها مصرف روحانيته، ليجد منها عند الشدائد مدد الصبر والثبات والعزم والجلد والخشونة، عجيب جدا أن هذا الشهر الاقتصادي هو من أيام السنة كفائدة 8.30 في المائة؛ فكأنه يسجل في أعصاب المؤمن حساب قوته وربحه فله في كل سنة زيادة 8.30 من قوته المعنوية الروحانية.
وسحر العظائم في هذه الدنيا إنما يكون في الأمة التي تعرف كيف تدخر هذه القوة وتوفرها لتستمدها عند الحاجة، وذلك هو سر أسلافنا الأولين الذين كانوا يجدون على الفقر في دمائهم وأعصابهم ما تجد الجيوش العظمى اليوم في مخازن العتاد والأسلحة والذخيرة.
كل ما ذكرته في هذا المقال من فلسفة الصوم؛ فإنما استخرجته من هذه الآية الكريمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. وقد فهمها العلماء جميعا على أنها معنى "التقوى" أما أنا فأولتها من "الاتقاء" ؛ فبالصوم يتقى المرء على نفسه أن يكون كالحيوان الذي شريعته معدته، وألا يعامل الدنيا إلا بمواد هذه الشريعة؛ ويتقي المجتمع على إنسانيته وطبيعته مثل ذلك، فلا يكون إنسان مع إنسان كحمار مع إنسان, يبيعه القوة كلها بالقليل من العلف.
وبالصوم يتقي هذا وهذا ما بين يديه وما خلفه، فإن ما بين يديه هو الحاضر من طباعه وأخلاقه، وما خلفه هو الجيل الذي سيرث من هذه الطباع والأخلاق، فيعمل بنفسه في الحاضر, ويعمل بالحاضر في الآتي.

وكل ما شرحناه فهو اتقاء ضرر لجلب منفعة، واتقاء رذيلة لجلب فضيلة، وبهذا التأويل تتوجه الآية الكريمة جهة فلسفية عالية، لا يتأتى البيان ولا العلم ولا الفلسفة بأوجز ولا أكمل من لفظها؛ ويتوجه الصيام على أنه شريعة اجتماعية إنسانية عامة؛ يتقي بها الاجتماع شرور نفسه؛ ولن يتهذب العالم إلا إذا كان له مع القوانين النافذة هذا القانون العام الذي اسمه الصوم، ومعناه "قانون البطن".
ألا ما أعظمك يا شهر رمضان! لو عرفك العالم حق معرفتك لسماك: "مدرسة الثلاثين يومًا".

__________________________

يفسر القرآن بعضه بعضًا، ومن معجزاته في هذا التأويل الذي استخرجناه أن يؤيده بالآية الكريمة في سورة "يس": {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ويشير إلى هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الصوم جنة -بضم الجيم- فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم".
الجنة: الوقاية يتقي بها الإنسان، والمراد أن يعتقد الصائم أنه قد صام ليتقي شر حيوانيته وحواسه، فقوله: "إني صائم، إني صائم"؛ أي إنني غائب عن الفحش والجهل والشر؛ إني في نفسي ولست في حيوانيتي.