الأربعاء، ٤ مايو ٢٠١١

تاريخ يتكلم ..!



رأيتني أصبحت كاتبا لهذا الحاكم " الحاكم بأمر الله " ، فجعلت أشهد أعماله وأدون تاريخه، وأقبلت على ما أفردني به وقلت في 
نفسي: لقد وضعتني الدنيا موضعا عزيزا لم يرتفع إليه أحد من كتابها وأدبائها، فسأكتب عن هذا الدهر بعقل بينه وبين هذا الدهر 968 سنة صاعدة في العلم.

ودونت عشرة مجلدات ضخمة انتبهت وأنا أحفظها كلها، فإذا هي جمل صغيرة، جعل الحلم كل نبذة منها سفرا ضخما كما يخيل للنائم أنه عاش عمرًا طويلا وأحدث أحداثًا ممتدة، على حين لا تكون الرؤيا إلا لحظة.

وهذه هي المجلدات التي قلت: إن التاريخ يتكلم بها في التاريخ.




المجلد الأول:

ابتلي هذا الطاغية بنقيصتين: إحداهما من نفسه، والأخرى من غيره، فأما التي من نفسه فإني أراه قد خلق وفي مخه لفافة عصبية من يهودية جده رأس هذه الدعوة؛ فهو الحاكم بن العزيز بن المعز بن القاسم المهدي عبيد الله، ويقولون: إن عبيد الله كان ابن امرأة يهودية من حداد يهودي، فاتفق أن جرى ذكر النساء في مجلس الحسين بن محمد القداح، فوصفوا له تلك المرأة اليهودية، وأنها آية في الحسن، وكان لها من الحداد ولد، فتزوجها الرجل وأدب ابنها وعلمه، ثم عرفه أسرار الدعوة العلوية وعهد إليه بها.
ومن بعض اللفائف العصبية في المخ ما ينحدر بالوراثة مطبوعا على خيره أو شره، لا يد للمرء فيه ولا حيلة له في دفعه أو الانتفاء منه، فيكون قدرًا يتسلسل في الخلق ليحدث غاياته المقدورة، فمتى وقع في مخ الإنسان فالدنيا به كالحبلى ولا بد أن تتمخض عنه.
هذه اللفافة اليهودية في مخ هذا الطاغية ستحقق به قول الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} [المائدة: 82] فهو لن يكون العدو للإسلام دون أن يكون الأشد في هذه العداوة، ولن يكون فيها الأشد حتى يفعل بها الأفاعيل المنكرة. وما أرى هذه المآذن القائمة في الجو إلا تخرق بمنظرها عينه من بغضه للإسلام وانطوائه على عداوته، فويل لها منه!

وأما النقيصة الثانية

فقد ابتلي بقوم فتنوه بآرائهم ومذهبهم، وهم حمزة بن علي، والأخرم، وفلان، وفلان... وقد لفقوا للدنيا مذهبا هو صورة عقولهم الطائشة, لا يجيء إلا للهدم، ثم لا يضع أول معاوله إلا في قبة السماء ليهدمها! ولو أنا جمعت هذا المذهب في كلمة واحدة لقلت: هو حماقة حمقاء تريد إخراج الله من الوجود لإدخال الله في بعض الطغاة!
ويتلقبون في مذهبهم بهذه الألقاب: العقل، الإرادة، الإمام، قائم الزمان، علة العلل!

أظهر الطاغية أن الله يؤيد به الإسلام، ليتألف الجند والشعب ويستميلهم إليه، وكان في ذلك لئيم الكيد، دنيء الحيلة، يهودي المكر، فأمر بعمارة المدارس للفقه والتفسير والحديث والفتيا، وبذل فيها الأموال، وجعل فيها الفقهاء "والمشايخ"، وبالغ في إكرامهم، والتوسعة عليهم، والتخضع لهم، ودخل في ظلال العمائم.


وأحضر لنفسه فقيهين مالكيين "اثنين لا واحد" يعلمانه ويفقهانه، وكان أشبه بمريد مع شيخ الطريقة يتسعد به ويتيمن؛ أشرف ألقابه أنه خادم العمامة الخضراء، وأسعد أوقاته اليوم الذي يقول له فيه الشيخ: رأيتك في الرؤيا ورأيت لك!
وكانت هذه المعاملة الإسلامية الكريمة من هذا الطاغية هي بعينها ربا اللفافة اليهودية في مخه؛ تصلح بإقراض مائة، وفيها نية الخراب بالستين في المائة! فإنه ما كاد يتمكن من الناس ويعرف إقبالهم عليه وثقتهم به، حتى طلبت اللفافة اليهودية رأس المال والربا، فأمرهم بهدم تلك المدارس وإخرابها، وأبطل العيدين وصلاة الجمعة، وقتل الفقهاء وقتل معهم فقيهيه وأستاذيه، وعاد كالمريد المنافق مع شيخ الطريقة، يقول في نفسه: إن هناك ثلاثة تعمل عملا واحد في الصيد: الفخ، والعمامة، واللحية!

إن هذا الطاغية ملك حاكم، يستطيع أن يجعل حماقته، شيئا واقعًا، فيقتل علماء الدين بإهلاكهم، ويقتل مدارس الدين بإخرابها، ولو شاء لاستطاع أن يشنق من المسلمين كل ذي عمامة في عمامته، ويبلغ من كفره أن يتبجح ويرى هذا قوة، ولا يعلم أنه لهوانه على الله قد جعله الله كالذبابة التي تصيب الناس بالمرض، والبعوضة التي تقتل بالحمى، والقملة التي تضر بالطاعون، فلو فخرت ذبابة، أو تبجحت قملة أو استطالت بعوضة لجاز له أن يظن طنينه في العالم. وهل فعل أكثر مما تفعل؟

قد أودى بأناس يقوم إيمانهم على أن الموت في سبيل الحق هو الذي يخلدهم في الحق، وأن انتزاعهم بالسيف من الحياة هو الذي يضعهم في حقيقتها، وأن هذه الروح الإسلامية لا يطمسها الطغيان إلا ليجلوها.


إنه -والله- ما قتل ولا شنق ولا عذب، ولكن الإسلام احتاج في عصره هذا إلى قوم يموتون في سبيله، وأعوزه ذلك النوع السامي من الموت الأول الذي كان حياة الفكر ومادة التاريخ، فجاءت القملة تحمل طاعونها!
لقد أحياهم في التاريخ، أما هم فقتلوه في التاريخ، وجاءهم بالرحمة من جميع المسلمين، أما هم فجاءوه باللعنة من المسلمين جميعًا!

المجلد الثالث:

يرى هذا الطاغية أن الدين الإسلامي خرافة وشعوذة عن النفس، وأن محو الأخلاق الإسلامية العظيمة هو نفسه إيجاد أخلاقه، وأن الإسلام كان جريئا حين جاء فاحتل هذه الدنيا؛ فلا يطرده من الدنيا إلا جراءة شيطان كالذي توقح على الله حين قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82]. ولهذا أمر الناس بسب الصحابة، وأن يكتب ذلك على حيطان المساجد والمقابر والشوارع!
أخزاه الله! أهي رواية تمثيلية يلصق الإعلان عنها في كل مكان؟ ولو سمع لسمع المساجد والمقابر والشوارع تقول: أخزاه الله!

المجلد الرابع:

هذا الفاسق لا يركب إلا حمارًا أشهب يسميه: "القمر"، وقد جعل نفسه محتسبا لغاية خبيثة؛ فهو يدور على حماره هذا في الأسواق ومعه عبد أسود، فمن وجده قد غش أمر الأسود فـ...! ووقف هو ينظر ويقول للناس: انظروا...!
ومن غلبة الفسوق على نفسه وعلى شيعته أن داعيته "حمزة بن علي" نوه بالحمار في كتابه وأومأ إليه بالثناء، لخصال: منها أن...! وكتب حمزة هذا في بعض رسائله؛ أن ما يرتكبه أهل الفساد بجوار البساتين التي يمر بها "الفاسق" من المنكر والفحشاء, إنما يرتكب في طاعته...!


هذه طبيعة كل حاكم فاسق ملحد، يرى في نفسه رذائله عريانة، فلا يكون كلامه وعمله وفكره إلا فحشا يتعرى؛ وإن في هذا الرجل غريزة فسق بهيمية متصلة بطور الحيوان الإنساني الأول؛ فما من ريب أن في جسمه خلية عصبية مهتاجة، ما زالت تسبح بالوراثة في دماء الأحياء، متلففة على خصائصها، حتى استقرت في أعصاب هذا الفاسق، فانفجرت بكل تلك الخصائص.


ولست أرى أكثر أعماله ترجع في مردها إلا إلى طغيان هذه الغريزة فيه؛ فهو يحاول هدم الإسلام، لأنه دين العفة ودين صون المرأة، يلزمها حجاب عفتها وإبائها، ويمنعها الابتذال والخلاعة، ويعينها أن تتخلص ممن يشتهيها، ولو كان الحاكم. إنه يمقت هذا الدين القوي، كما يمقت اللص القانون؛ فهو دين يثقل على غريزته الفاسقة، ولكل غريزة في الإنسان شعور لا مهنأ لها إلا أن يكون حرًا حتى في التوهم؛ وهل يعجب السكير شيء أو يرضيه أو يلذه، كما يعجبه أن يرى الناس كلهم سكارى، فينتشي هو بالخمر، وتسكر غريزته برؤية السكر؟

وما زال رأي الفساق في كل زمن أن الحرية هي حرية الاستمتاع، وأن تقييد اللذة إفساد للذة.

المجلد الخامس:

يزعم الطاغية أنه يعز قومه، وما أراه يعزهم، لكنه يمتحن ذلهم وضعفهم وهوانهم على الأمم؛ يتجرأ شيئا فشيئا، متنظرا ما يتسهل، مترقبا ما يمكن؛ وهو يرى أن أخلاقنا الإسلامية هي أمواتنا دفنوا أنفسهم فينا؛ فمن ذلك يهدم الأخلاق ويظن عند نفسه أنه يهدم قبورًا لا أخلاقًا.


ولقد سخر منه المصريون بنكتة من ظرفهم البديع، وجاءوه من غريزته، فصنعوا امرأة من الورق الذي يشبه الجلد، وألبسوا خفها وإزارها، حتى لا شك من رآها أنها آدمية، ثم وضعوا في فيها قصة وأقاموها في طريقه؛ فلما رآها عدل إليها وأخذ من يدها القصة وقرأها، فإذا فيها سب له ولآبائه، وسخرية من جنونه ورعونته المضحكة؛ فغضب وأمر بقتل المرأة، فكانت هذه سخرية أخرى حين تحقق أنها من الورق، وأخذته النكتة الظريفة بمثل البرق والرعد؛ فاستشاط وأمر عبيده السودان بتحريق الدور ونهب ما فيها وسبي النساء والفجور بهن؛ حتى جاء الأزواج يشترون زوجاتهم من العبيد، بعد أن طارت الزوبعة السوداء في بياض الأعراض.

اندلعت ثورة الفجور في المدينة، لا من العبيد، ولكن من الحيوان العتيق المستقر في هذا الطاغية.

المجلد السادس:

وهذه رعونة من أقبح رعوناته، كأن هذا الحيوان لا يحسب نساء الأمة كلها إلا نساءه، فيأمرهن بأمر امرأته، وكأن النساء في رأيه إن هن إلا استجابات عصبية تطلق وترد.
إن لموجة الفسق في الغريزة الطاغية جزرا ومدا يقعان في تاريخ الفساق؛ فهذا الطاغية قد جزرت فيه الموجة، فأمر أن يمنع النساء من الخروج ليلا ونهارًا، لا تطأ أرض المدينة قدم امرأة، وأمر الخفافين ألا يصنعوا لهن الأخفاف والأحذية؛ ولما علم أن بعض النساء خرجن إلى الحمامات هدم الحمامات عليهن!
ولو مدت الموجة في تفسق الفاسق لفرض على النساء الخروج والاتصال بالرجال والتعرض للإباحة.
إن الصلاح والفساد كلاهما فساد ما لم يكن الصلاح نظافة في الروح وسموا في القلب.



المجلد السابع:

يزعم الطاغية أنه سيهدم كل قديم؛ وإني لأخشى -والله- أن يأمر الناس في بعض سطوات جنونه: أن كل من كان له أب أو أم بلغ الستين فليقتله, لتخلص الأمة من قديمها الإنساني!

كأنه لا يعرف أنه إنما يتسلط على أيام معاصريه لا على التاريخ؛ ويحكم على طاعة قومه وعصيانهم لا على قلوبهم وطباعهم وميراثهم من الأسلاف؛ فما هو إلا أن يهلك حتى ينبعث في الدنيا شيئان: نتن رمته في بطن الأرض، ونتن أعماله على ظهر الأرض. إن هذا الرجل المسلط، كالغبار المستطار لا يكنس إلا بعد أن يقع.

ولقد رأى المأفون أن أكل الناس الملوخيا الخضراء والفقاع، والترمس والجرجير، والزبيب والعنب, هوى قديم في طباع الناس، فنهى عن كل ذلك، لا يباع ولا يؤكل، وظهر على أن جماعة باعوا أشياء منها فضربهم بالسياط, وأمر فطيف بهم في الأسواق، ثم ضرب أعناقهم؛ كأن الذي يحمل الملوخيا الخضراء على رأسه ليبيعها يلبس عمامة خضراء.
أهذا -ويحه- تجديد في الأمة، أم تجديد في المعدة؟

المجلد الثامن:

لا يرضى الطاغية إلا أن يمحق روحانية الأمة كلها، فلا يترك شيئا روحانيا له في أعصاب الناس أثر من الوقار، وبمن يستظهر -ويله- إذا محقت رواحانية الأمة وأشرفت نزعتها الدينية على الانحلال؟ كأنه لا يعلم أن حقيقة الوجود لأمة من الأمم إنما تستمد من إيمانها بالمثل الأعلى الذي يدفعها في سلمها إلى الحياة بقوة، كما يدفعها في حربها إلى الموت بقوة؛ وكأنه لا يعلم أن التاريخ كله تقرره في الأرض بضعة مبادئ دينية.
هذا الحاكم الأخرق هو عندي كالذي يقول لنفسه: لم أستطع أن أفتح دولة، فلأفتح دولة في مملكتي, لقد أمر بهدم الكنائس والبيع، حتى بلغ ما هدم منها ثلاثين ألفا ونيفا.
أي مجنون أسخف جنونا من هذا الذي يحسب النفوس الإنسانية كالأخشاب؛ تقبل كلها بغير استثناء أن تدق فيها المسامير؟
سيعلم إذا نشبت حرب بينه وبين دولة أخرى، أنه كسر أشد سيوفه مضاء حين كسر الدين!

المجلد التاسع:


هذه هي الطامة الكبرى؛ فلا أدري كيف أكتب عنها؛ لقد تطاول المجنون إلى الألوهية فادعاها، وصار يكتب عن نفسه: باسم الحاكم الرحمن!

ولو كان أغبى الأغبياء في موضعه لاتقى شيئا، لا أقول تقوى الدين والضمير، ولكن تقوى النفاق السياسي، فكان يحمل الناس على أن يقولوا عنه: "أبانا الذي في الأرضين!".
وإلا فأي جهل وخبط، وأي حمق وتهور، أن يكون إله على حمار، وإن كان اسم حماره القمر!


المجلد العاشر:

سيأخذه الله بامرأة؛ ولكل شيء آفة من جنسه؛ لقد بلغ من وقاحة غريزته أن ائتفك أخته الأميرة "ست الملك"، ورماها بالفاحشة، وهي من أزكى النساء وأفضلهن، واتهمها بالأمير "سيف الدين بن الدواس" وقد علمت أنها تدبر قتله، وأنها اجتمعت لذلك بسيف الدين. فسأمسك عن الكتابة في هذا المجلد، وأدع سائره بياضا حتى أذهب إليهما فأعينهما بما عندي من الرأي، ثم أعود لتدوين ما يقع من بعد.
ورأيت أني اجتمعت بهما واطمأنا إلي، فأخذنا ندير الرأي:
قالت الأميرة لسيف الدين فيما قالته: "والرأي عندي أن تتبعه غلمانًا يقتلونه إذا خرج في غد إلى جبل المقطم، فإنه ينفرد بنفسه هناك!".

فقلت أنا: "ليس هذا بالرأي ولا بالتدبير".
قالت: "فما الرأي والتدبير عندك؟".

قلت: "إن لنا علما يسمونه "علم النفس"، لم يقع لعلمائكم، وقد صح عندي من هذا العلم أن الرجل طائش الغريزة مجنونها، وأن الأشعة اللطيفة الساحرة التي تنبث من جسم المرأة هي التي تنفجر في مخه مرة بعد مرة؛ فإذا خبت هذه الأشعة، وبطلت الغريزة، بطلت دواعي أعماله الخبيثة كلها، وكف عن محاولته أن يجعل الأمة مملوءة من غرائز جسمه وشهواته، لا من فضائلها ودينها. فلو أخذتم برأيي وأمضيتموه فإنه سينكر أعماله إذا عرضها على نفسه الجديدة، وبهذا يصلح ما أفسد، وتكون حياته قد نطقت بكلمتها الصحيحة كما نطقت بكلمتها الفاسدة، فإذا...".

قال الأمير: "فإذا ماذا؟".
قلت: "فإذا خصي...".
فضحكت ست الملك ضحكة رنت رنينًا.
قلت: "نعم إذا خصي هذا الحاكم".
فغلبها الضحك أشد من الأول، ورمتني بمنديل لطيف كان في يدها أصاب وجهي، فانتبهت وأنا أقول: "نعم إذا خصي هذا الحاكم...".

------------------------

هذه المقالة كتبها الرافعي عام 1353 من الهجرة وكتبها في الطاغية الحاكم بأمر الله و أنا أنقلها اليوم لكل طاغية مستبد يقتل شعبه و يستبيح دمائهم و أنقلها لكل من مسه شئ من الخبل في عقله وما زال يؤيد تلك الأنظمة الفاسدة !! رحم الله الشهداء الأحرار و لعنة الله على كل ظالم فاسد قاتل مستبد


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق