الأحد، ١٠ أبريل ٢٠١١

الحب والزواج - للمنفلوطي




                                                      الحب والزواج..! 
بقلم الأديب الإسلامي الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي 

قرأت في بعض المجلات قصة قصها أحد الكتاب، موضوعها أنَّ كاتبها غاب عن بلده بضعة أعوام، ثمَّ عاد إليها بعد ذلك، فزار صديقاً له من أثرياء الرجال ووجوههم ومن ذوي الأخلاق الكريمة والأنفس العالية، فوجده حزيناً كئيباً على غير ما يعهد من حاله قبل اليوم، فاستفهم منه عن دخيلة أمره، فعرف أنَّه كان متزوجاً من فتاة يحبها ويجلها ويفديها بنفسه وماله فلم تحفظ صنيعه ولم ترع عهده، وأنها فرَّت منه إلى عشيق لها رقيق الحال وضيع النسب، فاجتهد الكاتب أن يلقى تلك الفتاة ليعرف منها سر فرارها من بيت زوجها، فلقيها في منزل عشيقها، فاعتذرت إليه عن فعلتها بأنها لا تحب زوجها؛ لأنه في الأربعين من عمره وهي لم تبلغ العشرين، وقالت: إنها جرت في ذلك على حكم الشرائع الطبيعية وإن خالفت الشرائع الدينية؛ لأنَّ الأولى عادلة، والثانية ظالمة.

 وقالت: إنَّ ما يسميه الناس بالزنا والخيانة هو في الحقيقة طهارة وأمانة، ولا الجريمة ولا الغش ولا الخداع إلا أن تأذن المرأة لزوجها الذي تكرهه بالإلمام بها إلمام الأزواج بنسائهم ما دامت لا تحبه ولا تألف عشرته، وقالت: لو أدرك الناس أسرار الديانات وأغراضها لعرفوا أنَّها متفقة في هذه المسألة مع الشرائع الطبيعية، وأنَّها ربما تعدُّ المرأة في بيت زوجها زانية، وفي بيت عشيقها طاهرة، إذا كانت تكره الأول.

هذا ملخص القصة على طولها، وأحسبها قصة موضوعة على نحو ما يضع الكتاب القصص الخيالية لنشر رأي من الآراء أو تأييد مذهب من المذاهب؛ لأنَّ الكاتب قد أعذر تلك الفتاة فيما فعلت، واقتنع بصحة أقوالها وصحة مذهبها، وأعداها على زوجها، وقضى لها فيما كان بينهما.

وسواء أكانت القصة حقيقية أم خيالية، فالحق أقول: إنَّ الكاتب أخطأ في وضعها، وما كنت أحسب إلا أنَّ مذهب الإباحية قد قضى وانقضى بانقضاء العصور المظلمة، حتى قرأت هذه القصة منشورة باللغة العربية بين أبناء الأمة العربية، فنالني من الهم والحزن ما الله عالم به.

قرأنا ما كتب الكاتبون في سبيل الدفاع عن المرأة الساقطة، وهي التي هفت في حياتها هفوة دفعها إليها دافع خداع أو سائق حاجة ثم ثاب إليها رشدها وهُداها، فقلنا: لا بأس بتهوينهم ذنباً جسّمته العادة، وألبسته ثوباً أوسع من ثوبه، ولا بأس برحمتهم فتاة مذنبة تحاول الرجوع إلى ربها، والتوبة من ذنبها، ويأبى المجتمع البشري إلا أن يسدّ عليها أبواب السماء المفتحة للقاتلين والمجرمين.

أما وقد وصل الحد إلى تزيين الزنا للزانية وتهوين إثمه عليها وإغراء العفيفة الصالحة بالتمرد على زوجها والخروج على طاعته كلما دعاها إلى ذلك داعٍ من الهوى، فهذا ما لا يطاق احتماله ولا يستطاع قبوله؛ إن فتاة الرواية لم تهف في جريمتها فقط كما يهفو غيرها من النساء؛ لأنها مقيمة في منزل عشيقها من زمن بعيد، وقد عقدت عزمها على البقاء فيه ما دامت روحها باقية في جسدها، ولم يسقها إلى ذلك سائق شهوة بشرية، إن صح أن تكون الشهوة البشرية عذراً يدفع مثلها إلى مثل ما صنعت؛ لأنَّها فرَّت من فراش زوجها، لا من وحشية خلوتها ولا سائق جوع؛ لأنها كانت أهنأ النساء عيشاً، وأروحهن بالاً، بل كانت على حالة من الرفاهية والنعمة والتقلب في أعطاف العيش البارد لم تر مثلها من قبل ولا من بعد، إذن فهي امرأة مجرمة لا يمنحها العدل من الرحمة ما منح المرأة الساقطة.

إن كانت هذه الفتاة عفيفة طاهرة كما يزعم الكاتب؛ فقد أخطأ علماء اللغة جميعاً في وضع كلمة الفساد في معاجمهم؛ لأنَّها لا مسمى لها في هذا العالم، عالم العفة والطهارة والخير والصلاح، ولا يمكن أن يكون المراد منها فتاة المواخير فإنها لم تترك وراءها زوجاً معذباً منكوباً، ولم ترض عن حياتها الجديدة التي انتقلت إليها قط ولا اغتبطت بعيشها فيها اغتباط تلك الفتاة.

كل الأزواج ذلك الزوج إلا قليلاً، فإذا جاز لكل زوجة أن تفر من زوجها إلى عشيقها كلما وقع في نفسها الضجر من معاشرة الأول وبرقت لها بارقة الأنس من بين ثنايا الثاني، فويل لجميع الرجال من جميع النساء، وعلى النظام البيتي والرابطة الزوجية بعد اليوم ألف سلام.

أيها الكاتب! ليس في استطاعتي ولا في استطاعتك ولا في استطاعة أحد من الناس أن يقف دورة الفلك ويصدّ كرّ الغداة ومرّ العشى حتى لا يبلغ الأربعين من عمره مخافة أن تراه زوجته غير أهل لعشرتها إذا علمت أنَّ في الناس من هو أصغر منه سناً وأكثر منه رونقاً وأنضر شباباً.

إنَّ الضجر والسآمة من الشيء المتكرر المتردد طبيعة من طبائع النوع الإنساني، فهو لا يصبر على ثوب واحد أو طعام واحد أو عشير واحد، وقد علم الله سبحانه وتعالى ذلك منه، وعلم أنَّ نظام الأسرة لا يتم إلا إذا بني على رجل وامرأة تدوم عشرتهما، ويطول ائتلافهما، فوضع قاعدة الزواج الثابت ليهدم قاعدة الحب المضطرب، وأمر الزوجين أن يعتبرا هذا الرباط مقدساً حتى يحول بينهما وبين رجوعهما إلى طبيعتهما، وذهابهما في أمر الزوجية مذهبهما في المطاعم والمشارب، من حيث الميل لكل جديد، والشغف بكل غريب.
هذا هو سر الزواج وهذه حكمته، فمن أراد أن يجعل الحب قاعدة العشرة بدلاً من الزواج، فقد خالف إرادة الله وحاول أن يهدم ما بناه ليهدم بهدمه السعادة البيتية.

أي امرأة متزوجة بأجمل الرجال لا تحدثها نفسها في استبداله بأجمل منه؟ وأي رجل متزوج بأجمل النساء لا يتمنى أن يكون في منزله أجمل منها، لولا هذا الرباط المقدس: رباط الزوجية، فهو الذي يعالج أمثال هذه الأماني وتلك الهواجس، وهو الذي يعيد إلى النفوس الثائرة سكونها وقرارها.

لا بأس أن يتثبَّت الرجل قبل عقد الزواج من وجود الصفة المحبوبة لديه في المرأة التي يختارها لنفسه، ولا بأس أن تصنع المرأة صنيعه، ولكن لا على معنى أن يكون الحب الشهوي هو قاعدة الزواج، يحيا بحياته ويموت بموته. فالقلوب متقلبة، والأهواء نزَّاعة، بل بمعنى أن يكون كلّ منهما لصاحبه صديقاً أكثر منه عشيقاً، فالصداقة ينمو بالمودة غرسها، ويمتد ظلها، أمَّا الحب فظلُّ ينتقل؛ وحال تتحوَّل

هناك تعليق واحد: