الاثنين، ٢٨ مارس ٢٠١١

بنتــــــــــــه الصغيرة = 2



... وجاء من الغد أبو يحيى مالك بن دينار إلى المسجد، فصلى بالناس، ثم تحول إلى مجلس درسه وتعكفوا حوله؛ وكانوا إلى بقية خبره في لهفة كأن لها عمرًا طويلًا في قلوبهم، لا ظمأ ليلة واحدة.
وقال منهم قائل: أيها الشيخ، جعلت فداك، ما كان تأويل الحسن لتلك الآية من كلام الله تعالى؟وكيف رجع الكلام في نفسك مرجع الفكر تتبعه، وأصبح الفكر عندك عملًا تحذو عليه، واتصل هذا العمل فكان ما أنت في ورعك و...؟
فقطع الإمام عليه وقال: هوِّن عليك يا هذا؛ إن شيخك لأهون من أن تذهب في وصفه يمينًا أو شمالًا، وقد روى لنا الحسن يومًا ذلك الخبر الوارد فيمن يُعذب في النار ألف عام من أعوام القيامة، ثم يدركه عفو الله فيخرج منها، فبكى الحسن وقال: "يا ليتني كنت ذلك الرجل!" وهو الحسن يا بني، هو الحسن....!
فضج الناس وصاح منهم صائحون: يا أبا يحيى قتلتنا يأسًا. وقال الأول: إذا كان هذا فأوشك أن يعمنا اليأس والقنوط، فلا ينفعنا عمل، ولا نأتي عملًا ينفع.
قال الشيخ: هونوا عليكم، فإن للمؤمن ظنين: ظنا بنفسه، وظنا بربه؛ فأما ظنه بالنفس فينبغي أن ينزل بها دون جَمَحَاتها ولا يفتأ ينزل؛ فإذا رأى لنفسه أنها لم تعمل شيئًا أوجب عليها أن تعمل، فلا يزال دائمًا يدفعها؛ وكلما أكثرت من الخير قال لها: أكثري. وكلما أقلت من الشر قال لها: أقلي. ولا يزال هذا دأبه ما بقي؛ وأما الظن بالله فينبغي أن يعلو به فوق الفترات والعلل والآثام، ولا يزال يعلو؛ فإن الله عند ظن عبده به، إن خيرًا فله وإن شرًّا فله. ولقد روينا هذا الخبر: "كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعًا وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُل على راهب فأتاه، فقال: إنه قتل تسعًا وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ قال: لا! فقتله فكمل به مائة! ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال له: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ قال: نعم؛ ومن يحول بينك وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا, فإن بها أناسًا يعبدون الله عز وجل، فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء.

فانطلق، حتى إذا نصف الطريق أتاه ملك الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب؛ فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط. فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه حكمًا بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيهما كان أدنى فهو له. فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة!".
قال الشيخ: فهذا رجل لما مشى بقلبه إلى الله حسبت له الخطوة الواحدة، بل الشبر الواحد؛ ولو أنه طوف الدنيا بقدميه ولم يكن له ذلك القلب، لكان كالعظام المحمولة في نعش؛ قبرها في المشرق هو قبرها في المغرب، وليس لها من الأرض ولا للأرض منها إلا معنى واحد لا يتغير؛ هو أنه بجملته ميت، وأنها بجملتها حفرة.
والإنسان عند الناس بهيئة وجهه وحليته التي تبدو عليه، ولكنه عند الله بهيئة قلبه وظنه الذي يظن به؛ وما هذا الجسم من القلب إلا كقشرة البيضة1 مما تحتها. فيا لها سخرية أن تزعم القشرة لنفسها أن بها هي الاعتبار عند الناس لا بما فيها، إذ كان ما تحويه لا يكون إلا فيها هي؛ ومن ثم تبعد في حماقتها فتسأل: لماذا يرميني الناس ولا يأكلونني؟
إن هذه الأخلاق الفاضلة في هذا الإنسان لا تجد تمام معناها إلا في حالة بعينها من أحوال القلب، وهي حالة خشوعه على وصفها الذي شرحته الآية الكريمة: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16].
فالأخلاق الفاضلة محدودة بالله والحق معًا، وهي كلها في خشوع القلب لهذين؛ فإن من القلب مخارج الحياة النفسية كلها.

قال الشيخ: وأنا منذ حفظتُ عن الحسن تأويل هذه الآية، واستننت بها، مضيت أعيش من الدنيا في تاريخه قلبي لا في تاريخ الدنيا، وأدركت من يومئذ أن ليس حفظ القرآن حفظه في العقل، بل حفظه في العمل به؛ فإن أنت أثبت الآية منه، وكنت تعمل بغير معناها، وتعيش في غير فضيلتها، فهذا -ويحك- نسيانها لا حفظها. وقد كان قومنا الأولون بمعانيه كالشجرة الخضراء النامية؛ فيها ورقها الأخضر وزهرها، وعلى ظاهرها حياة باطنها، فلما ثبت الناس على الشكل وحده، ولم يبالوا القلب وأحواله، أصبحوا كالشجرة اليابسة، عليها ورقها الجافّ، ليس في بقائه ولا سقوطه طائل.
ما أصبحت ولا أمسيت منذ حفظت تفسير الآية إلا في حياة منها، وهذه الآية هي التي دلتني بمعانيها أن ليست الحياة الأرضية شيئًا إلا ثورة الحي على ظلم نفسه، يستكف عنها أكثر مما يستجر لها، والناس من شقائهم على العكس، يستجرون أكثر مما يستكفون، وإنما السعيد من وجد كلمات روحانية إلهية يعش قلبه فيهن، فذاك لا يعمل أعماله كما يأتي ويتفق، بل يحذو على أصل ثابت في نفسه، ويختار فيما يعمل أحسن ما يعمل، ومن ثم لا يكون جهاده مراغمة أو خضوعًا في سيل الوجود كالحيوان، بل في سبيل صحة وجوده؛ ولا يكون غرضه أن يلابس الحياة كما تأخذه هي وتدعه، بل أن يحيا في شرف الحياة على ما يأخذها هو ويدعها.
إن الشقاء في هذه الدنيا إنما يجره على الإنسان أن يعمل في دفع الأحزان عن نفسه بمقارفته الشهوات، وبإحساسه غرور القلب؛ وبهذا يُبعد الأحزان عن نفسه ليجلبها على نفسه في صور أخرى!
قال الشيخ: وكان مما حفظته من تفسير الحسن قوله:

إن كل كلمة في الآية تكاد تكون آية، وليست الكلمة في القرآن كما تكون في غيره، بل السمو فيها على الكلام، أنها تحمل معنى، وتومئ إلى معنى، وتستتبع معنى؛ وهذا ما ليس في الطاقة البشرية، وهو الدليل على أنه {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1]1.
يقول الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 طريقتنا في اكتناه إعجاز القرآن، أن الكلمة الواحدة من كلماته لها جهات عدة؛ كما ترى فيما نشرحه من تفسير هذه الآية، وفيما جئنا به من تفسير آيات سبقت في المقالات الأخرى؛ فالبحث في فهم القرآن يجب أن يكون في اللفظة، ووجه اختيارها، وسياق تركيبها، وما تدل عليه في كل ذلك، وما يدل كل ذلك بها. وقد بسطنا هذا في كتابنا: إعجاز القرآن.
{أَلَمْ يَأْنِ} [الحديد: 16] هذه الكلمة حث، وإطماع، وجدال، وحجة؛ وهي في الآية تصرح أن خشوع القلب الذي تلك صفته هو كمال للإيمان، وأن وقت هذا الخشوع هو كمال العمر، وكيف يعرف المؤمن أنه "سيأنى" له أن يعيش ساعة أو ما دونها؟ إذن فالكلمة صارخة تقول: الآن الآن قبل ألا يكون آن. أي: البدار البدار ما دمت في نفَس من العمر؛ فإن لحظة بعد "الآن" لا يضمنها الحي. وإذا فني وقت الإنسان انتهى زمن عمله فبقي الأبد كله على ما هو؛ ومعنى هذا أن الأبد للمؤمن الذي يدرك الحقيقة، وإن هو إلا اللحظة الراهنة من عمره التي هي "الآن". فانظر -ويحك- وقد جُعل الأبد في يدك؛ انظر كيف تصنع به؟
تلك هي حكمة اختيار اللفظة من معنى "الآن" دون غيره، على كثرة المعاني.
ثم قال: {لِلَّذِينَ آَمَنُوا} [الحديد: 16] وهذا كالنص على أن غير هؤلاء لا تخشع قلوبهم لذكر الله ولا للحق، فلا تقوم بهم الفضيلة، ولا تستقيم بهم الشريعة، وعالمهم وجاهلم سواء؛ لا يخشعان إلا للمادة؛ وكأن إنسانهم إنسان تُرابيّ، لا يزال يضطرب على مكر الليل والنهار بين طرفين من الحيوان: عيشه وموته؛ وما تقسو الحياة قسوتها على الناس إلا بهم، وما ترقّ رقتها إلا بالمؤمنين.
وجعل الخشوع للقلوب خاصة، إذ كان خشوع القلب غير خشوع الجسم، فهذا الأخير لا يكون خشوعًا، بل ذلًّا، أو ضَعَة، أو رياء أو نفاقًا، أو "ما كان" أما خشوع القلب فلن يكون إلا خالصًا مخلصًا محض الإرادة.
واشترط "القلب" كأنه يقول: إنما القلب أساس المؤمن، وإن المؤمن ينبع من قلبه لا من غيره، متى كان هذا القلب خاشعًا لله وللحق. فإن لم يكن قلبه على تلك الحال، نبع منه الفاسق والظالم الطاغية وكل ذي شر. ما أشبه القلب تتفرع منه معاني الخُلُق، بالحبة تنسرح منها الشجرة؛ فخذ نفسك من قلبك كما شئت؛ حلوًا من حلو، ومرًّا من مر.
وخشوع القلب لله وللحق، معناه السموّ فوق حب الذات، وفوق الأَثَرة والمطامع الفاسدة؛ وهذا يضع للمؤمن قاعدة الحياة الصحيحة، ويجعلها في قانونين لا قانون واحد؛ ومتى خشع القلب لله وللحق، عظمت فيه الصغائر من قوة إحساسه بها، فيراها كبيرة وإن عمي الناس عنها، ويراها وهي بعيدة منه بمثل عين العُقَاب, يكون في لوح الجو ولا يغيب عن عينه ما في الثرى.
وقد تخشع القلوب لبعض الأهواء خشوعًا هو شر من الطغيان والقسوة؛ فتقيد خشوع القلب "بذكر الله" هو في نفسه نفي لعبادة الهوى، وعبادة الذات الإنسانية في شهواتها. وما الشهوة عند المخلوق الضعيف إلا إله ساعتها, فيا ما أحكم وأعجب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يُشرَب الخمر حين يشربها وهو مؤمن". جعل نزع الإيمان موقوتًا "بالحين" الذي تقترف فيه المعصية؛ إذ لم يكن الله عند هذا الشقي هو إله ذلك "الحين".
والخشوع لما "نزل من الحق" هو في معناه نفي آخر للكبرياء الإنسانية التي تفسد على المرء كل حقيقة، وتخرج به من كل قانون؛ إذ تجعل الحقائق العامة محدودة بالإنسان وشهواته لا بحدودها هي من الحقوق والفضائل.
ويخرج من هذا وذلك تقرير الإرادة الإنسانية، وإلزامها الخير والحق دون غيرهما، وقهرها للذات وشهواتها، وجعلها الكبرياء الإنسانية كبرياء على الدنايا والخسائس، لا على الحقوق والفضائل؛ وإذا تقرر كل ذلك انتهى بطبيعته إلى إقرار السكينة في النفس، ومحو الفوضى منها, وجعل نظامها في إحساس القلب وحده؛ فيحيا القلب في المؤمن حياة المعنى السامي، ويكون نبضه علامة الحياة في ذاتها، وخشوعه لله وللحق علامة الحياة في كمالها.
وقال: {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16] كأنه يقول: إن هذا الحق لا يكون بطبيعته ولا بطبيعة الإنسان أرضيا، فإذا هو ارتفع من الأرض وقرره الناس بعضهم على بعض، لم يجاوز في ارتفاعه رأس الإنسان، وأفسدته العقول؛ إذ كان الإنسان ظالمًا متمردًا بالطبيعة، لا تحكمه من أول تاريخ إلا السماء ومعانيها، وما كان شبيهًا بذلك مما يجيئه من أعلى, أي: بالسلطان والقوة؛ فيكون حقًّا "نازلًا" متدفعًا كما يتصوب الثقل من عال ليس بينه وبين أن ينفذ شيء.
والخشوع لما نزل من الحق ينفي خشوعًا آخر هو الذي أفسد ذات البين من الناس، وهو الخشوع لما قام من المنفعة وانصراف القلب إليها بإيمان الطمع لا الحق.

وبحمل الآية على ذلك الوجه يتحقق العدل والنَّصَفَة بين الناس؛ فيكون العدل في كل مؤمن شعورًا قلبيًّا، جاريًا في الطبيعة لا متكلفًا من العقل؛ وبهذا وحده يكون للإنسان إرادة ثابتة عن الحق في كل طريق، لا إرادة لكل طريق، وتستمر هذه الإرادة متسقة في نظامها مع إرادة الله، لا نافرة منها ولا متمردة عليها؛ وهذا ذلك يثبت القلب مهما اختلفت عليه أحوال الدنيا، فلا يكون من إيمانه إلا سموه وقوته وثباته، وينزل العمر عنده منزلة اللحظة الواحدة، وما أيسر الصبر على لحظة! وما أهون شر "الآن" إن كان الخير فيما بعده.
ألم يأن؛ ألم يأن؛ ألم يأن.
قال الشيخ: وكان الحسن في معانيه الفاضلة هو هذه الآية بعينها؛ فما كانت حياته إلا إسلامية كهذا الكلام الأبيض المشرق الذي سمعته منه؛ شعاره أبدًا: "الآن قبل ألا يكون آن" وإمامه: "خذ نفسك من قلبك" وطريقته: "شرف الحياة لا الحياة نفسها".
وكان يرى هذه الحياة كوقْعَة الطائر؛ هي جناحين مستوْفِزين أبدًا لعمل آخر هو الأقوى والأشد، فلا ينزلان بطائرهما على شيء إلا مطويين على قدرة الارتفاع به، ولا يكونان أبدًا إلا هَفْهافين خفيفين على الطيران؛ إذ كانا في حكم الجو لا في حكم الأرض.
وآلة الوقوع والطيران بالإنسان شهواته ورغباته؛ فإن حطته شهوة لا ترفعه، فقد أوبقته وأهلكته وقذفت به ليؤخذ.
لقد روينا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس"، وهذا ضرب من خشوع القلب المؤمن فيما يحل له: يدع أشياء كثيرة لا بأس عليه فيها لو أتاها؛ ليقوى على أن يدع ما فيه بأس، فإن الذي يترك ما هو له يكون أقوى على ترك ما ليس له.

والنفس لا بد راجعة يومًا إلى الآخرة، وتاركة أداتها؛ فقِوام نظامها في الحياة الصحيحة أن تكون كل يوم كأنها ذهبت إلى الآخرة وجاءت. وتلك هي الحكمة فيما فرضته الشريعة الإسلامية من عبادة راتبة تكون جزءًا من عمل الحياة في يومها وليلتها. فإذا لم تكن النفس في حياتها كأنها دائمًا تذهب إلى مصيرها وترجع منه، طمسها الجسم وحبسها في إحدى الجهتين، فلم يبق لها فيه إلا أثر ضئيل لا يتجاوز النصح، كاعتراض المقتول على قاتله؛ يحاول أن يرد السيف بكلمة! وبذلك يتضاعف الجسم في قوته، ويشتد في صَوْلته، ويتصرف في شهواته، كأن له بطنين يجوعان معًا, فتستهلك شهوات المرء دينه, وتقذف به يمينًا وشمالًا، على قصد وعلى غير قصد، وتمضي به كما شاءت في مَدْرجة, مَدْرجة من الشر.
ومثل هذا المسرف على نفسه لا يكون تمييزه في الدين، ولا إحساسه بالخير، إلا كذلك السِّكِّير الذي زعموا أنه أراد التوبة، وكانت له جَرَّتان من الخمر، فلما اتعظ وبلغ في النظر إلى نفسه وحظ إيمانه، وأراد أن يطيع الله ويتوب, نظر إلى الجرتين ثم قال: أتوب عن الشرب من هذه حتى تفرغ هذه!
قال الشيخ: ثم إني تبت على يد الحسن، وأخلصت في التوبة وصححتها، وعلمت من فعله وقوله أن حقيقة الدين هي كبرياء النفس على شرها وظلمها وشهواتها، وأن هذه الكبرياء القاتلة للإثم، هي في النفس أخت الشجاعة القاتلة للعدو الباغي: يفخر البطل الشجاع بمبلغه من هذه، ويفخر الرجل المؤمن بمبلغه من تلك؛ وأن خشوع القلب هو في معناه حقيقة هذه الكبرياء بعينها.
وحدثتُ الحسن يومًا حديث رؤياي1، وما شُبه لي من عملي السيئ وعملي الصالح، فاستدمعت عيناه، وقال:

إن البنت الطاهرة هي جهاد أبيها وأمها في هذه الدنيا، كالجهاد في سبيل الله، وإنها فوز لهما في معركة من الحياة، يكونان هما والصبر والإيمان في ناحية منها قَبِيلًا، ويكون الشيطان والهم والحزن في الجهة المناوحة قبيلًا آخر.
إن البنت هي أم ودار، وأبواها فيما يكابدان من إحسان تربيتها وتأديبها وحياطتها والصبر عليها واليقظة لها, كأنما يحملان الأحجار على ظهريهما حجرًا حجرًا؛ ليبتنيا تلك الدار في يوم يوم إلى عشرين سنة أو أكثر، ما صحبته وما بقيت في بيته.
فليس ينبغي أن ينظر الأب إلى بنته إلا على أنها بنته, ثم أم أولادها، ثم أم أحفاده؛ فهي بذلك أكبر من نفسها، وحقها عليه أكبر من الحق، فيه حرمتها وحرمة الإنسانية معًا؛ والأب في ذلك يقرض الله إحسانًا وحنانًا ورحمة، فحق على الله أن يوفيه من مثلها، وأن يضعف له.
والبنت ترى نفسها في بيت أهلها ضعيفة كالمنقطعة وكالعالة، وليس لها إلا الله ورحمة أبويها؛ فإن رحماها, وأكرماها فوق الرحمة، وسَرَّاها فوق الكرامة، وقاما بحق تأديبها وتعليمها وتفقيهها في الدين, وحفظا نفسها طاهرة كريمة مسرورة مؤدبة؛ فقد وضعا بين يدي الله عملًا كاملًا من أعمالها الصالحة، كما وضعاه بين يدي الإنسانية. فإذا صارا إلى الله كان حقًّا لهما أن يجدا في الآخرة يمينًا وشمالًا يذهبان بينهما إلى عفو الله وكرمه، وكما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان له ابنة فأدبها فأحسن تأديبها، وغذّاها فأحسن غذاءها، وأسبغ عليها من النعمة التي أسبغ الله عليه؛ كانت له ميمنة وميسرة من النار إلى الجنة".

فهذه ثلاث لا بد منها معًا، ولا تجزئ واحدة عن واحدة في ثواب البنت: تربية عقلها تربية إحسان، وتربية جسمها تربية إحسان وإلطاف، وتربية روحها تربية إكرام وإلطاف وإحسان.
قال الشيخ: والله أرحم أن تضيع عنده الرحمة؛ والله أكرم أن يضيع الإحسان عنده، والله أكبر...
وهنا صاح المؤذن: الله أكبر.
فتبسم الشيخ وقام إلى الصلاة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق