الاثنين، ٢٨ فبراير ٢٠١١

حديث قطيِّن


جاءَ في امتحانِ شهادةِ إتمامِ الدراسةِ الابتدائيةِ لهذا العام (1934) في موضوع الإنشاءِ ما يأتي:



"تَقابَلَ قطان: أحدُهما سَمين تبدو عليه آثارُ النعمة، والآخرُ نحيف يدلُ منظرُهُ على سُوءِ حالِه؟ فماذا يقولانِ إذا حدثَ كل منهما صاحبَه عن معيشتِه؟ ".

وقد حارَ التلاميذُ الصغارُ فيما يضَعونَ على لسانِ القطين، ولم يعرفوا كيف يوتجهون الكلامَ بينَهما، وإلى أي غايةِ ينصرفُ القولُ في
مُحاورتِهِما؟ وضاقوا جميعاَ وهم أطفال- أنْ تكونَ في رؤوسِهم عقولُ السنانير (القطط)؟ وأعياهم (أتعبهم) أن تنزلَ غرائزُهمُ الطيبةُ في هذهِ المنزلة منَ البهيميةِ ومن عيشِها خاصة، فيكتَنِهوا تدبيرَ هذه القِطَاطِ لحياتِها، وينفُذُوا إلى طبائِعها، ويندَمجوا في جُلودِها، ويأكلوا .بأنيابها، ويمزقوا بمَخَالِبها


قال بعضهُم: وسَخِطنا على أساتذتِنا أشذَ السخط، وعِبناهم بأقبحِ العيب، كيف لم يعلمونا من قبل- أن نكونَ حَميراَ، وخيلا، وبغالاً، وثيراناَ، وقِرَدَةَ، وخنازيرَ، وفئراناً، وقِطَطَة، وما هب ودب، وما طارَ ودَرَجَ، وما مَشَى وانسَاحَ؟ وكيف- ويحَهم- لم يلقنونا معَ العربية والإنجليزيةِ لغاتِ النَّهيقِ، والصَهيلِ، والشَحيجِ، والخُوارِ، وضَحِكَ القرد، وقُبَاعَ الخنزير، وكيف نَصِىءُ ونَموء، ونَلغَط لَغَطَ الطير، ونَفُخ فَحيحَ الأفعى، ونَكِشُ كَشِيشَ الدبابات ، إلى ما يتمُ به هذا العلمُ اللغوي الجليلُ، الذي تقومُ به بلاغةُ البهائم والطيرِ والحشراتِ والهمَج أشباهِها....؟
وقال تلميذ خبيثْ لأستاذِه: أما أنا فأوجْزتُ وأعجزت. قال أستاذه: أجدتَ وأحسنتَ، وللهِ أنت! وتاللهِ لقد أصبتَ! فماذا كتبْتَ؟ قال: كتبتُ هكذا:

يقول السمين: نَاو، ناو، ناو... فيقولُ النحيف: نَو، ناو نَو... فيردُ عليه السمين: نَو، ناو، ناو... فيغضب النحيف، ويكشِرُ عن أسنانهِ، ويحركُ ذيلَه ويصيح: نَو، نَو، نَو... فيلطمُهُ السمينُ فيَخدِشُه ويصرخ: ناوْ... فيثبُ عليه النحيفُ ويصْطَرِعان، وتختلطُ "النونَوَة" لا يمتازُ صوتٌ من صوت، ولا يَبِينُ معَنًى من معنى، ولا يمكنُ الفهمُ عنهما في هذهِ الحالةِ إلا بتعبِ شديد، بعد مراجَعةِ قاموس القِطاط...!
قال الأستاذ: يا بني، باركَ اللهُ عليك! لقد أبدغتَ الفن إبداعاً، فصنعت ما يصنعُ أكبرُ النوابغ، يُظهرُ فئه بإظهارِ الطبيعةِ وإخفاءِ نفسِه، وما ينطقُ القِط بلغتِنا إلأ مُعجِزةَ لنبي، ولا نبيَ بعدَ محمدٍ "ص" ، فلا سبيلَ إلا ما حكيْتَ ووصفتَ، وهو مذهبُ الواقع، والواقعُ هو الجديد في الأدب؟ ولقد أرادوكَ تلميذأ هِرا، فكنتَ في إجابتِك هِرُّا أستاذاَ، ووافقتَ السَّنانيرَ وخالفتَ الناس، وحققتَ للممتحِنين أرقى نظرياتِ الفنِ العالي، فإنَّ هذا الفنَ إِنّما هو في طريقةِ الموضوعِ الفنيّةِ، لا في تلفيقِ الموادِ لهذا الموضوع من هنا وهناك، ولو حفِظوا حرمةَ الأدبِ ورَعَوا عهدَ الفن لأَدركوا أن في أسطرِك القليلةِ كلاماً طويلاً بارعاَ في النادرةِ والتهكم، وغرابةِ العبقرية، وجمالِها وصدقِها، وحسنِ تَنَاولِها، وإحكامِ تأديتِها لما تؤدَّي (تلك عبارة تنم عن سخرية و تهكم)، ولكن ما الفرقُ يا بنيَ بين "ناو" بالمد، و "نَو" بغيرِ مد..؟ قال التلميذ: هذا عندَ السنانيرِ كالإشاراتِ التلغرافية: شَرطة ونقطة وهكذا.


قال: يا بنيَ، ولكنَّ وَزَارة المعارفِ لا تُقِرُ هذا ولا تعرفُه، وِإنما يكون المصحّحُ أستاذاَ لا هِرَّا... والامتحانُ كتابيٌ لا شَفَوي.
قال الخبيث: وأنا لم أكن هِرا بل كنْتُ إنسانا، ولكنَّ الموضوعَ حديثُ قِطَّين، والحكمَ في مثلِ هذا لأهلِه القائمين به، لا المتكلّفينَ له، المتطفلينَ عليه، فإن هم خالفوني قلْتُ لهم: اسألوا القِطاط، أوْ لا فليأتوا بالقِطين: السمينِ والنحيفِ، فليجمعُوا بينهما، وليُحَرّشوهما (يثيروهما)، ثم ليُحْضروا الرُقباءَ هذا الإمتحان، وليكتبوا عنهما ما يسمعونَه، ولْيصِفوا منهما ما يَرونَه، فوالذي خَلَق السنانيرَ والتلاميذَ والممتحنينَ والمصححينَ جميعاَ- ما يزيدُ الهرانِ على "نَو، وناو"، ولا يكون القولُ بينهما إِلا من هذا، ولا يقعُ إِلَّا ما وصفْتُ، وما بُد منَ المهارَشَةِ والمواثَبةِ بما في طبيعةِ القوي والضعيف، ثم فرارِ الضعيفِ مهزوما، وينتهي الإمتحا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق