الأحد، ٢٦ يونيو ٢٠١١

النجوى .. ورقة من أوراق الورد ..

وبدا الصباح عليها بمعاني الرياض، وعلى الرياض بمعانيها هي، فاجتمع نشاط الكون ونشاط قلبي، وتقتلت كما تتقتل .. وقالت ضاحكة : لا أحبك !
قلت " الرافعي " : إن فيها "أحبك" وهذا يكفي !
قالت وزادت في ضحكها : أعني أبغضك !
قلت : ولكنه بغض من تضحك كما أرى ...!
قالت، وزوت من وجهها وتكلفت العبوس قليلاً : أعني ...
فابتدرتها أقول : إن تكلف وجهك ينطق بأنه لا يعني ...!
فذهب بها الضحك مذهباً ظريفاً وقالت : الآن قطع بك، فلقد كنت أريد أن أقول " أعنى أحبك " فنفيتها أنت فانتفت !
قلت : بل الآن وصل بي .. ما دمت قد قلت " أعني أحبك " وأثبتها أنت فثبتت ...
قالت واستطلق وجهها : إني والله أجد من سروري أن أعجزك، ولكنك داهية لا تعجز، ولا يزال في لسانك جواب ما أقوله وما لم أقله !
فقلت : وأنا والله أجد من سروري أن أقدر، ولكن هل أقدر على ما هو مقدر ؟ إن بعض كلماتك هي الآن كلمات، ولقد تكون غداً حوادث !
فاعترضتني قائلة : أنت تنظر في نور من خيالك مع نور الطبيعة، فترى أشياء كثيرة غير الأشياء .
قلت : ولكنه هو النور الذي يقيد الطبيعة كلها بمنظر واحد ..
قالت : أهو منظر جميل ؟
قلت : بل الجمال بعضه ...
قالت : وما عسى أن يكون باقيه إذا لم يكن الجمال إلا بعضه ؟
قلت : إن في قلبي كلاماً يُسمع من غير أن أتكلم به . وفيه جواب سؤالك !
فاستضحكت وقالت : وعلى هذا فهمت من غير أن أفهم .. ألا قل لي ، لماذا تكون لغتك هكذا ؟
فقلت : لأن الحب يجعل كل سهل واضح في الأشياء غامضاً معقداً في النفس وهذا هو سره، وبهذا يرتفع عن الإنسانية ويجنح إلى التأله، وبسره وتألهه يخلق كل ما يمسه في صورة ثانية مع صورته التي تقوم به، فيجعله بصورتيه من الكون، ومن النفس العاشقة أيضاً، وليس من شئ خُلق مرتين، ولكن أشياء الحب كلها كذلك خلق ثم خلق . 




















ليت شعري ، أيعذب العاشق المسكين بهذا التأله الخيالي فيكون عقاباً شديداً بطريقة غير أرضية؟ أم ينعم به فهو ثواب عظيم بطريقة غير أرضية كذلك ؟


إنه لسرٌ عجيب رائع في قلب من تيمه الحب، يدل عليه إنه ما من عاشق إلا وهو يرى أن رضاه عن جمال حبيبته، وتكوين أوضاعها وتناسقها ومشاكلة بعضها بعضاً، كرضا الضائع عن صنعته وافتنانه بما أبدع واخترع وبما أتفن وأحكم، كأنه هو قدّر وسوّى، وسوّى وخلق، ولو جاز أن يهبه الله القوة على أن يذرأ ، ويبرأ ، ثم أمره أن يخلق لنفسه امرأة، لما صنع إلا هذه التي أحبها بكل ما يحبه فيها، وإن لم يستطع الحب أن يخلق إنساناً فهو يخلق إنسانية .


بذلك لا يُفهم هذا الحب إلا في أسلوب ملتو، لأن له طرفاً غائباً وراء النفس، كالعود من الأعواد غمس أسفله في الماء فلا يتراءى للعين في صفحة الماء إلا ملتوياً متثنياً، لا يعمل من ذات نفسه، بل بموضعه وبتأثير أحكام الضوء في موضعه.


والحب يشبه ألوهية دون حدها، فهو بهذا مفهوم غير مفهوم، ويشبه إنسانية فوق حدها. وهو بهذا أيضاً مفهوم، ولا نراه أبداً إلا مصرحاً غامضاً . 


إن صرح من جهة الحاسة غمض من ناحية الفكرة وكل دونه هو في النفس يأتي من بعده في الموضع والقيمة والاعتبار، لأن في الحب وحده المعنى الأكبر للحياة في وهم الحب، على حين كل ما في الحياة هو في الواقع أكبر منه، ولن يعيش من لا يأكل ولا يشرب ، على أن من لا يحب نراه يعيش.


قال : وضحكت . بذلك لا يُفهم إلا الحب، وبذلك استطعت أن تجعل لغتك هكذا 


قلت : وبذلك أيضاً استطعت أنتِ أن تجدي مخابئ لغوية كثيرة تخبئين فيها الكلمة التي تريدين النطق بها ولا تنطقينها، فصارت لغتك عندي تفسر من معجمات كثيرة :


من نظرة والتفافة وخطرة وحركة، ومن شئ ومن لا شئ، وتقولين الكلمة بما شاء دلالك من أساليبه الكثيرة ، إلا بأسلوب النظق كأنها تراغمك على أن تظهر وتراغمينها على أن تختفي . أتعلمين أنك كالدولة من الدول العظمى ، حاشدة كل وسائل الحرب، مُعدّة لها في كل وقت ، فهي بذلك ظافرة غالبة من غير حرب، كأن وسائل الحرب تُقاتل من غير أن تقاتل ؟ = تمنع الإعتداء فكأنها تقاتله وترده الدولة المستعدة، إذ يقيها غيرها .=


قالت : يا ويحك ! فإذا قبلت منك أني دولة عظمى ، فكيف أقبل منك أني " أكاديمية " عظمى .. حتى تجعل لي معجمات كثيرة ؟ وترى ما الذي يمكنك أن تفسره من معجماتي ؟


قلت : يا ويحك غيرك ! أمكنني يا جبارة المستحيلات ما أمكن الغزال من جبار الممكنات ...


قالت : أسألك عن مستحيلاتي، ولكن ما هي ممكنات غزالك ؟


قلت : إن غزالي هذا كان فيلسوفاً لا يصدق إلا ما يقره، ولا يقر ما لا يمتحنه ، على طريقة الفيلسوف " كانت " .. ولم يكن رأي سبعاً قط، وهوّلوا عليه في أوصافه ورهبته وسطوته، فلم يصدق شيئاً من ذلك إلا أن يراه ويدرسه درساً تحليلياً ، كما تسمين أنت كلامك وفلسفتك. قالوا : فأطال الغزال الفكرة في ذلك، ودبر أن يلقى الأسد ويدرسه . ثم إنه قسّم الدرس إلى أعمال خمسة على هذا النسق : فالأول أن يتجسس مخالب السبع ثم يعجمها يدق عليها بحجر ليعرف مبلغ صلابتها ويقف على سر تركيبها، والثاني ألا يكتفي بمثل هذا الصنيع في الأنياب، بل قرر أن يحطم واحداً منها ليعلم ما سر قوته ومضائها ؟


والثالث أن يتناول عضلات الأسد في زوره ورقبته وأعضاده فيغمزها غمزاً شديداً لعلها من ورم أو شحم وما يدري الناس، والرابع أن يجئ، بالموسى فيحلق لبدة الأسد فيكشف عما تحتها ويرى منظره وقد عرى منها، فلعلها من شعوذته في القوة واحتياله على مظهرها ورهبتها، والخامس أنه متى فرغ من كل ذلك حملق في عيني الأسد ودرس ذلك اللمح الخفيف من شعاعهما، فإن لم يبلغ من ذلك ما أراد علمه وفلسفته اقتلع إحداهما وأسالها وبحث فيها ما شاء !


قالوا : ولما جاء العرين وأصبح من الأسد بمرصد وهبت رائحة لحمان أجداده .. 


قال : النجاة النجاة ! ما هذا بالذي خُلقت له فلسفة رأسي ولكنه الذي خلق له عدو ساقي .. ووثب يشتد مع الريح 


ولكن رآه من تعقيد الحب ، إن الفيلسوف المتهزم الآن هو الأسد بلبدته وأنيابه ومخالبه وبكل ما هو به أسد، والمنتصر هو الغزال بلينه ونعومته وبعينه الكحيلة وبكل ما هو به غزال !


قالت : آه ! ولم تزد .



قلت : آه ! أنت يا حبيبتي فيّ، وأشعر بك دائمة الاندفاق والانصباب في نفسي، كأنك جمال لا ينتهي، وكأني عشق لا يمتلئ وأنتِ خارجة عني وبي شوق دائم النزوع إليك، يُخيل إليّ والله أنه ملء الكون لا ملئ صدري : وأنه لا يزال شارداً منسحباً على الوجود كله لا يجد ما يستقر عليه، مع أنه واجدك، ومع أنه حائم عليك، وما ذلك إلا لأنك دائمة الدلال، أي دائمة الانحراف عن لمسات قلبي، أي دائمة الاعتزاز بمعانيكِ الجميلة، كي لا تثبت صفة منك على صفة مني، كي لا نتعانق حتى ولا في المعاني . 


أنتِ اثنتان عندي وليس في يدي من واحدة في شئ، وإذا كثرت الآمال لتكثر حسرات الإخفاق عليها، فلماذا لا تقول إن الأمل هو الاسم الصحيح للخيبة ؟ 


إنكِ لي كالرؤيا من الرؤى السماوية، فالتي هي أنت ليست في التي هي أنتِ ، وبذلك فالتي أحبها فيكِ لا يمكن أن أجدها فيكِ " أي هو يهوى التي يهواها ليجد فيها مسرات  الحب ، وهذه ليس فيها إلا عذاب الفلسفة " ، كأنما نتلاقى في عالم بعيد من وراء ظواهرنا .


كأنما قامت منا في الحب حدود دولتين، فلن يتقدم حد منهما إلى حد ويكون بينهما سلم، ولا سلم إلا في هذه الوقفة الثابتة، ولا إخلاص ولا محبة ولا ثقة إلا أن يدق مسمار الزمن في كليهما فإذا هو من الآخر بعيد على قرب قريب على بعد " إذا كان السلم بين دولتين متجاورتين، فأبعد الأشياء منالاً عن كل منهما حد جارتها الذي هو أقرب الأشياء إليها ." !


كأننا نعيش في أمس، يجئ يلبس كل يوم من أيامنا لا قوة تناله فتنزعه، ولا قوة تناله فتبليه، فما تزال تتجدد من تحته أيام الحب في سر منا، ونعطي كل يوم عالمنا ولا نأخذه ولا نتلقاه !


كأننا في يوم هجر خالد علينا، فكل ما يأتي بعده من الأيام ميت فيه لا محالة، إذ أيام الحب إنما هي بنسبتها إلى الحبيب لا إلى الزمن .


كأن هذا الحب قد ضرب بيننا وبين الحقائق بسور ظاهره فيه الرحمة وياطنه من قبله العذاب، فكل ما رأيناه رأي العين من فرح الأشياء ولذاتها، علمناه في علم أنفسنا أوجاع مكابدة وآلام حرمان ...! 


فاضجرت فلسفتها هذه الفلسفة فقالت وابتسامتها ظاهرة على قولها: وأما قبل "  اسم رسالة من الرسائل " ؟ 


قلت : وأما قبل فكأنما أنا المكان الحي الذي تئن فيه الأشياء أنينها الباكي، وتبتغي فيه موسيقى الحب من أوتار متقطعة متبعثرة إن جاءت بشئ فبأنغام موتى أو مرضى، وإني لأحسب الدنيا كلها تصدح من حولكِ تلقين فيها النغم ثم لا تحبسين الصمت إلا لي أنا وحدي .


قالت : أفٍ للشاعر من الشاعر نفسه ! أنت كما تريد من الحياة مسرة لابتساماتك تريد منّا آلاماً لعبوسك الشعري ، وإذا لم تجد الألم أوجدته واخترعته ، كأنه لا بد لمن يصنع شعراً أن يصنع مقادير يفرح بها ويحزن !


ما أراني أفهم عنك حين تقول : السماء والطبيعة  وهي، والشمس والقمر وهي ، والخير والشر وهي : فأنت وحدك تفهم هذا، لأن للشعراء شياطينهم، فلك مثلهم شياطين يحدثك وتحدثه، وترى ما اسمه .




قلت : اسمه " هـــي " ....


وكأنما كان الشيطان غائباً في سفرٍ طويل ورجع عند ذكر اسمه، فلما رآها هي اسمه ألقى فيها سحراً من سحره فإذا على ثغرها برهان ثغرها ... وقالت : اسكت !


قلت : لقد عرفنا الشيطان باسمه ..


قالت : اسكت ! 


قلت : ما يسكتني ولا الشيطان نفسه .


فمدت إلي نظرة طويلة كلها براهين على قوة هذا الشيطان الفاتن، وقالت : اسكت اسكت !


ثم لا أدري ما الذي أسكتني حينئذ .. أحسب أن الشيطان سدّ فمي بفمه !


آه ! وأنا حين أقول آه ! أحسبها شعلة تتلوى ذاهبة ممتدة في قلبي .!


آه ! وأنا حين أقول آه ! أشعر أن قلبي يمدها طويلاً طويلاً لتصل إلى قلب آخر .!


آه ! وأنا حين أقول آه ! أراني بعدها كأن روحي طارت إلى آخر مدها ووقعت، آه ! 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق