الأحد، ٣ أبريل ٢٠١١

قراءَة في أسلوبِ الرَّافعي د. عادل أحمد سالم باناعمه

1ـ الطفولة و النشأة
ولد "الرافعي" سنة 1880م بقرية ( بهْتيم ) من قرى القليوبية في بيت جده لأمه، وذلك أن أمه أسماء بنت الشيخ "أحمد الطوخي الحلبي" آثرت أن تكون ولادتها الثانية في بيت أبيها الذي كان تاجرا تسير قوافله بالتجارة بين مصر والشام.
ثم تنقل "الرافعي" بين دمنهور والمنصورة وكفر الزيات تبعا لأبيه حتى استقر به المقام في طنطا؛ حيث تولى أبوه رئاسة محكمتها، وهناك في حارة ( سيدي سالم ) نشأ الرافعي وترعرع.

كانت الأسرة الرافعية أسرة علم و دين، تأخذ أبناءها بالتربية الدينية القويمة، وتغرقهم في الثقافة العربية الإسلامية الأصيلة.
و بدأ الرافعي تحصيله العلمي على والده الشيخ القاضي، وثقف من مجالس الأشياخ والعلماء الذين كانوا يختلفون إلى أبيه علما كثيرا، حتى إذا بلغ العاشرة كان قد حفظ القرآن وجوّده. و تأخر دخوله إلى الابتدائية إلى عام 1892م، وهو حينئذ ابن اثنتي عشرة سنة؛ حيث ابتدأ دراسته في دمنهور ثم أتمها في المنصورة، وكان هذا كل حظه من التعليم النظامي، و لم يظفر طوال حياته بغير الشهادة الابتدائية.
وقد ظهر نبوغه منذ صغره، حتى لقد راودته نفسه أن يضع في العربية كتابا يجعل شواهدها فيه من نظمه في سائر أبوابها ومسائلها، وكان قد آثر منذ صباه الحديث بالفصحى، ونعى على رفاق درسه هذه العامية المزالة عن أصلها، راغبا بذلك في بعث لغويٍّ صحيح، و متسترا به من جهة أخرى على قلة حظه من العامية المصرية؛ فلقد كانت في لهجته ملامح سورية تنمُّ عن أصله؛ إذ كان فقد السمع قبل أن يتم تمامه ويكون أهلا لغِشيان المجالس، واقتصر سماعه على ما لقفه من والديه من لهجة سورية؛ فضعف بذلك حظه من عامية أهل مصر، وكان يقول لصفيه العريان: "فلتكن أنت لي قاموس العامية!".

قلت: إن "الرافعي" لم يتم دراسته بعدَ الابتدائية، و مردُّ ذلك إلى مرض شديد لزمه فلم يغادره حتى ترك في أذنيه وقرا، وفي صوته حبسة، و مازال سمعه يضعف شيئا فشيئا وصوته يتضاءل ويحتبس حتى انقطع عن كل صوت حوله وهو في مطلع العقد الثالث من عمره، و رجع صوته "أشبه بصراخ الطفل فيه عذوبة الضحكة المحبوسة استحيت أن تكون قهقهة".
غير أن "الرافعي" استعاض عن هذه المدارس بعكوف جاد على مكتبة أبيه العامرة، وتطواف مبارك في رياض كتب السلف، وساعدته على ذلك علته التي أفضت به إلى اعتزال الناس، وتعويض ما فاته من سمعه بعلم وأدب 
يجعلان له بين الناس مكانا عليّا.


2ـ البنية الثقافية
ذكرتُ من قبل أن "الرافعي" نشأ نشأة علمية أدبية؛ إذ حفظ القرآن الكريم وهو دون العـاشرة، ثم أخذ عن أبيه علما كثيرا في الفقه والحديث والأصول وغيرها من العلوم الدينية.
و لم يكتف "الرافعي" بما حصل عن أبيه شفاها، بل عكف على مكتبته يعب من نهرها المتدفق ما وسعه ذلك، ثم أدمن النظر كذلك في مكتبة الشيخ "القصبي" ومكتبة الجامع الأحمدي في طنطا، وكانت له جولات مع كتب الحديث والأدب شعرا ونثرا، حتى لقد حفظ نهج البلاغة وهو دون العشرين، حفظه في القطار بين طنطا وطلخا ذاهبا إلى وظيفته و آيبا منها.
وكان يقرأ كل يوم ثماني ساعات متواصلة. بل ذكر "العريان" أن "الرافعي" احتاج مرة أن يعبر عن معنى في أسلوب من أسلوبه فتأبى عليه القول؛ فأخذ يغمغم برهة، فإذا هو يقرأ لنفسه من ذاكرته بابا من كتاب "المخصص" لابن سيده! وكان إلى ذلك بصيرا بدقائق النحو وخواص التراكيب وفروق اللغات.
ولم تكن تلك الثقافة التراثية هي كل حظ "الرافعي"، بل كان له بصر بما جد من علوم إنسانية لدى الغرب، وقد عرف الفرنسية معرفة حسنة، وقرأ بها عدة سنوات بعض ما اتفق له من كتب العلم والأدب. ومما قاله في معرض رده على "سلامة موسى": "كذب سلامة في زعمه أني لا أعرف لغة أجنبية، فأنا أعرف الفرنسية وأستطيع الترجمة منها"، وحكى البدري عن "زينب" ابنة "الرافعي" أن أباها كان يتخذ عصر كل يوم مجلسا يراجع فيه المعْلمة الفرنسية مستعينا بمعاجم فرنسية وعربية، وذكر أنه وجد بين أوراقه قطعة من صحيفة فرنسية وقد جرى فيها قلم "الرافعي" بخط فرنسي بادي الجمال والوضوح .
و الناظر إلى ما كان يوصي "الرافعي" تلميذه "أبا رية" بقراءته يجزم بسعة اطلاع هذا الأديب وتمكنه من الآداب الغربية، ولا يقف الأمر عند معرفته أسماء الكتب، بل نجده إذ يناقش خصومه يعرض للحديث عن آداب اللغات الأوروبية" كأنه لم يكن يفوته منها شيء أحضر أو ترجم".
و هكذا نرى أن "الرافعي" يتكئ في ثقافته على التراث العربي الإسلامي، وأنه إلى ذلك أحاط خبرا بما لدى الآخرين، ولكنها الإحاطة التي لا تفضي إلى الذوبان والتبعية، وإنما هي الإحاطة التي تمنح العقل قوة وطاقة وعافية يعود بها إلى تراثه أوفر ما يكون نشاطا، وأحد ما يكون بصيرة.
و من خلال هذه البنية الثقافية نستطيع أن نتلمس المؤثرات في أسلوبه ولغته..
فأول ذلك كتاب الله عز وجل وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم. و أدل شيء على تأثير لغة الكتاب العزيز والحديث الشريف على لغته ما ذكره كاتب في مجلة أمريكية من أن "الرافعي" لو ترك (الجملة القرآنية) والحديث الشريف ونزع إلى غيرهما لكان ذلك أجدى عليه و لملأ الدهر.

و ثاني هذه المؤثرات ما حفظه من تراث العرب، و بيان فصحائهم، وقد سبق أن ذكرنا حفظه لنهج البلاغة وفصول من المخصص، و كثرة قراءته في كتب الجاحظ وابن المقفع وأبي الفرج، وقد قال ابن خلدون رحمه الله: "وعلى قدر جودة المحفوظ، وطبقته في جنسه، و كثرته من قلته تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ ـ ثم تكون جودة الاستعمال من بعده، ثم إجادة الملكة من بعدهما ـ لأن الطبع إنما ينسج على منوالها".

وثم مؤثر ثالث هو قراءته الواسعة في شتى فنون الثقافة الإسلامية، ونحن نعلم أن لغة كثير من المصنفين من فقهاء أو محدِّثين أو مؤرخين أو غيرهم لم تكن محل ثقة عند نَقَدة الاستعمال اللغوي، وحسبك أن "الأصمعي" قد خطأ "سيبويه" و "أبا عبيدة" و "الأخفش". وقد ظهرت في كتابة "الرافعي" أساليب تأثر فيها بلغة هؤلاء المصنفين.

أما رابع المؤثرات فهو ما ولع به "الرافعي" من النظر في الكتب المترجمة؛ فقد "تسللت إليه بعض عبارات التراجمة، واستعملها من غير أن يفطن إلى ما وراءها، على الرغم من شدة حساسيته"، وصارت جملته من أجل ذلك في نظر البعض "تشبه الجملة المترجمة أحيانا لفرط تحررها من الأنماط القديمة"، وأحسب أنه تأثر كذلك بما كان يقرؤه من الفرنسية مباشرة.


3ـ مذهبه في الكتابة
تحكم مذهب "الرافعي" في الكتابة أصول نظرية آمن بها واتخذها نبراسا، ثم بنى عليها فنه وأدبه. و لعلي أشير هنا إلى نصوص من أقواله ترسم لنا ملامح هذه الأصول:
أ‌. "إن كلمةً قرأتها لفكتور هوجو كان لها أثر في الأسلوب الأدبي الذي اصطنعته لنفسي، قال لي الأستاذ فرح أنطون مرة: إن لهوجو تعبيرا جميلا يعجب به الفرنسيون كل الإعجاب وهو قوله يصف السماء ذات صباح: ( وأصبحت السماء صافية كأنما غسلتها الملائكة بالليل). وأعجبتني بساطة التعبير وسهولة المعنى؛ فكان ذلك حذوي من بعد في الإنشاء".

ب. "لعل غموض بعض الفلاسفة وبعض الشعراء هو من دليل الطبيعة على أنهم زائدون في الطبيعة".

ج. "إن مذاهب العرب واسعة، و لنا ما لهم من التصرف في الاستعمال إذا لم نخرج عن قاعدتهم، و قد يزيد الإنسان حرفا لاستقامة الأسلوب، وإن خالف نقل اللغةِ، كما يزيد العرب و يحذفون من أمثال ذلك ، وهو كثير في كلامهم، والقرآن أبلغ شاهد عليـه، فدعنا من هذا و مثله، و أعتقد أن مذاهب العرب ليست بالضيق الذي يتصورونه".

د. "لا قيمة لكاتب لا يضع في اللغة أوضاعا جديدة".

هـ. "لا نقول: هذه العربية كاملة في مفرداتها، و لا إنه ليس لنا أن نتصرف فيها تصرف أهلها".
و. " إن القول بأن هذه فصيحة ، وهذه مولدة قد مضى زمنه ؛ فإنما الباعث عليه قرب عهد الرواة من فصحاء العرب في الصدر الأول، ثم تقليد علماء اللغة المتأخرين لأولئك الرواة تحقيقا بشروط هذا العلم الذي يحملونه ـ إذا كنا في كل كلمة نقول: نص "الجوهري"، و "ابن مكرم" و "المجد"، و فلان وفلان، ونغفل عما وراء ذلك مما تنص عليه طبيعة اللغة من أوزانها وقواعدها، وطرق الوضع والاستعمال فيها؛ فما نحن بأهل هذه اللغة، ولا بالقائمين عليها، و لا هي لغة عصرنا".

ز. "إن الخاصية في فصاحة هذه اللغة ليست في ألفاظها، ولكـن في تركيب ألفاظـها".

ح. "الكاتب العلمي تمر اللغة منه في ذاكرة و تخرج كما دخلت عليها طابع واضعيها، و لكنها من الكاتب البياني تمر في مصنع و تخرج عليها طابعه هو".

ط. "ما أرى أحدا يفلح في الكتابة والتأليف إلا إذا حكم على نفسه حكما نافذا بالأشغال الشاقة الأدبية كما تحكم المحاكم بالأشغال الشاقة البدنية".

ي. "يريدون فوق ذلك أن يطرحوا عنا كَدَّ الصناعة؛ لتكون خاتمة عجائبنا في هذا الجيل صناعة بلا كدٍّ".

ك. "ولقد ذكروا أن "أناتول فرانس" كان من التوفر على التنقيح ، والتلوم على السبـك، والحوك في كتابته وأسلوبه بحيث يكتب الجملة الواحدة مرة إلى مرتين إلى سبع مرات أو ثمان، ينقح في كل ذلك و يهذب و يتعمل، فهذا عندهم طلق مباح، ولكنّ بعضه عندنا وإن جاء بالمعجزات يكفي لأن يقلب المعجزة إلى حيلة و شعوذة".

ل. "إن مدار العبارات كلها على التخيل وتصوير الحقائق بألوان خيالية لتكون أوقع في النفس، ومن هنا كان الذين لا معرفة لهم بفنون المجاز أو لا ميل لهم إلى الشعر لا يميلون إلى كتابتي، ولا يفهمون منها حق الفهم، مع أن المجاز هو حلية كل لغة وخاصة العربية، ولا أعد الكاتب كاتبا حتى يبرع فيه، وهذا الذي جعلني أكثر منه مع أنه متعب جدا".

م. "وما المجازات و الاستعارات والكنايات ونحوها من أساليب البلاغة إلا أسلوب طبيعي لا مذهب عنه للنفس الفنية".

إن هذه النصوص ترسم ملامح المذهب الكتابي الذي يرتضيه "الرافعي"، وهو مذهب يقوم على الأصول التالية:
1ـ بساطة التعبير و وضوح المعنى.
2ـ التوسعُ في مذاهب العربية، و عدم الاقتصار على تقليد أساليب الأوائل، والتجديدُ الدائمُ في ألفاظها وأساليبها، على أن يكون ذلك وَفق طبيعة اللغة وأوزانها وقواعدها.
3ـ العناية بالتراكيب أكثر من العناية بالألفاظ، و مراعاة تناسبها وموسيقاها.
4ـ تميز الأديب في أسلوبه، وأن تكون عباراته عليها طابعه هو.
5ـ الكدّ والاجتهاد في الكتابة، و معاودة النظر والتنقيح، وإنكار مذهب السهولة والاسترسال فيها.
6ـ الاحتفال بالمجاز والعناية به.

وكل هذه الملامح ظاهرة فيما كتب "الرافعي" إلا ما ذكره من بساطة التعبير ووضوح المعنى، فإن هذا لا يسلَّم له في كل ما جاء به، فقد كان "الرافعي" نتيجة لتتبعه دقائق المعاني وإغراقه في المجاز، وتوليده المعنى من المعنى، والفكرة من الفكرة، يغرق أحيانا في الغموض حتى لا تكاد تدرك مراده ومبتغاه، وقد تنبه الأدباء لمثل هذا الغموض في أسلوبـه، واستغله خصومه للطعن عليه والزراية به، حتى لقد قال "طه حسين" عن كتابه "حديث القمر": "اللهم إني أشهد أني لا أفهم شيئا ـ ومهما يكن من شيء فإن الذين يريدون أن يروضوا أنفسهم على الطلاسم، واقتحام الصعاب، و تجشم العظائم من الأمور يستطيعون أن يجدوا في كتاب "الرافعي" ما يريدون"!
ورأى آخرون من أنصار "الرافعي" أن هذا الغموض إنما هو "من تحريه صفة الشعر والبيان"، ونعَتَه صدّيق "شيبوب" بروعة الغامض، و شبهه بالأديب الفرنسي "موريس باريس"، وقال "العريان": "و من هذا الكتاب ـ يعني حديث القمر ـ كانت أول التهمة للرافعي بالغموض والإبهام واستغلاق المعنى عند فريق من المتأدبين، و منه كان أول زادي و زاد فريق كبير من القراء الذي نشؤوا على غرار في الأدب لا يعرفه ناشئة المتأدبين اليوم".
على أن "الرافعي" حين كتب في الرسالة، وصار له جمهور، تبسط في أسلوبه، ومال إلى الوضوح؛ إذ كان من قبل يكتب لنفسه، وإرضاء لفنه، غير عابئ بوضوح المعنى لدى قارئه، إذا كان هو يراه واضحا في نفسه، فلما أدرك حق قرائه عليه تخفف من ذلك الغموض، ومن هنا ظهر الفرق بين كتابه: (وحي القلم) وبين غيره من كتبه.

و يحسن هنا أن ننقل كلمة للزيات حاول بها أن يفسر شِيَةَ الغموض التي تعرو بعض ما كتب "الرافعي"، قال ـ رحمه الله‍: "كان يحمل الفكرة في ذهنه أياما يعاودها في خلالها الساعة بعد الساعة بالتقليب والتنقيب والملاحظة والتأمل، حتى تتشعب في خياله وتتكاثر في خاطره، و يكون هو لكثرة النظر والإجالة قد سما في فهمها على الذكاء المألوف، فإذا أراد أن يعطيها الصورة ويكسوها اللفظ، جلاها على الوضع الماثل في ذهنه، وأداها بالإيجاز الغالب على فنه، فتأتي في بعض المواضع غامضة ملتوية وهو يحسبها واضحة في نفسك وضوحها في نفسه".

قلت: إن الملامح التي رسمها "الرافعي" للكتابة الأدبية الناضجة قد تحققت في أدبه هو إلا ما ذكره من الوضوح والسهولة والبيان، و لنتلمس ذلك فيما كتبه وما رواه عنه أصفياؤه وخلطاؤه.
توسع "الرافعي" كثيرا في مذاهب بناء الجملة، و لو أراد أحد "أن يتتبع ما أجدَّ "الرافعي" على العربية من أساليب القول لأخرج قاموسا من التعبير الجميل يعجز عن أن يجد مثله لكاتب من كتاب العربية الأولين" ؛ فمن ذلك قوله: شيطان ليطان و سهلا مهلا على الإتباع، واختراعه كلمة (أما قبل) ، وإيثاره (آخر أربع مرات) في مقابل: رابع مرة، وإدخاله حرفا على حرف من نحو قوله: في هل، و استخدامه كلماتٍ ينازعه في فصاحتها غيره مثل: اكتشف، والزهور، والورود، و تجويزه النسبة إلى الأخلاق، وذهابه إلى قياسية التضمين .
و سوف يظهر لنا من خلال التحليل النحوي للمستويات التركيبية في الجملة "الرافعية" أن له تراكيب كثيرة يرفضها الأصل النحوي؛ فمنها ما يتأتى تخريجه بتأويل ونحوه، ومنها ما لا يكاد يستطيع أحد إخراجه من دائرة الخطأ، وكل ذلك مرده إلى جرأته و توسعه.
و تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الجرأة وهذا الاقتحام مما لا يكاد يخلو منه أديب فذّ خلال تاريخ العربية الطويل، وأنا أنقل هنا كلمة لابن جني ـ رحمه الله ـ تبسط وجه العذر في ذلك، وتبين مأتاه، قال ـ رحمه الله ـ و هو يتحدث عن الضرورات وإقدام الشاعر عليها: "فمتى رأيت الشاعر قد ارتكب مثل هذه الضرورات على قبحها وانخراق الأصول بها، فاعلم أن ذلك على ما جَشِمَه منه وإن دلَّ من وجه على جوره وتعسفه، فإنه من وجه آخر مؤذن بصِيالِهِ وتخمُّطه، و ليس بقاطع دليل على ضعف لغته، و لا قصوره عن اختيار الوجه الناطق بفصاحته، بل مثَلُه في ذلك عندي مثل مُجْري الجَموح بلا لجام، ووارد الحرب الضروس حاسرا من غير احتشام، فهو وإن كان ملوما في عنفه وتهالكه، فإنه مشهود له بشجاعته وفيض مُنَّتِه؛ ألا تراه لا يجهل أن لو تَكَفَّر في سلاحه، أو أَعْصَم بلجامٍ جوادَه، لكان أقرب إلى النجاة، وأبعد عن المَلْحاة، لكنه جشِم ما جشِمه على علمه بما يعقب اقتحام مثله، إدلالا بقوة طبعه، ودلالة على شهامـة نفسـه"، ولله هذه الكلمة الجليلة التي فاه بها ابن جني رحمه الله!

ومن كل ما سبق كان "الرافعي" على شدة حفاظه على أسلوب العربية يبني جمله وعباراته على نمط لم يكن قط كتلك الأنماط التي عرفت لسابقيه من فحول البيان، وعلينا وقد عرفنا ذلك أن نحسن الظن به وبغيره من كبار المنشئين، "ونحاول استكشاف أسرار التراكيب لديهم، حتى تلك التي تبدو على أنها ـ من وجهة نظرنا ـ مخالفات نحوية يرتكبونها".


و أما الملمح الثاني وهو العناية بالتراكيب أكثر من العناية بالألفاظ، فهو بَيِّنٌ كذلك في كل ما كتب.
وقد كان "الرافعي" ـ رحمه الله ـ يعتدُّ الكتابة هندسة كهندسة البناء سواء بسواء؛ فكما أن الفرق بين منزل حسن وآخر قبيح إنما هو في تناسب أجزائه، وتلاؤم أطرافه، و حسن تخطيطه، فكذلك الفرق بين كلام حسن وكلام قبيح، فالألفاظ هي الألفاظ وإنما الشأن في نسقها وإلف بعضها لبعض، ووقوعِ كلٍّ موقعَه اللائق به.
وتأمل قوله: "ههنا خوان في مطعم كمطعم الحاتي مثلا عليه الشواء والملح والفلفل والكواميخ أصنافا مصنفة، و آخر في وليمة عرس في قصر وعليه ألوانه وأزهـاره، ومن فوقه الأشعة، ومن حوله الأشعة الأخرى من كل مضيئة في القلب بنور وجهها الجميل، أفترى السهولة كل السهولة إلا في الأول؟ وهل التعقيد كل التعقيد إلا في الثاني؟ ولكن أي تعقيد هو؟ إنه تعقيد فني ليس إلا "؛ ولذلك "كانت له عناية واحتفال بموسيقية القول، حتى ليقف عند بعض الجمل من إنشائه برهة طويلة يحرك بها لسانه حتى يبلغ بها سمعه الباطن، ثم لا يجد لها موقعا من نفسه فيردها وما بها من عيب ليبدل بها جملة تكون أكثر رنينا و موسيقى".

و تميُّزُ أسلوب "الرافعي"، و مباينته لكل أسلوب سواه، ودلالته على صاحبه، مما اجتمعت عليه الكلمة، ولا أعلم أديبا معاصرا حاز من هذه الفضيلة ما حازه الرافعي؛ فقد "كان في الكتّاب طريقة وحده"، وكان يكتب في الصحف مرارا بدون توقيع فينمُّ أسلوبه عليه، حصل ذلك في مقالات "على السفود"، و في مقالة "جنود سعد"، و هو وإن كان يحفظ ويقرأ لأعلام الكتاب فإنه كان "يجمع أطرافا من أولئك بطريقة رافعية".
لقد استطاع "الرافعي" "أن يكون أمثولة فريدة في غناء البيان العربي وحيـاة البلاغة … ألا ترى أن عبارتـه وجملته وأسلوبـه تظهر لقارئيه للوهـلة الأولى؟"

وأما تعبه في الكتابة وكدُّه فيها فقد بلغ فيه الغاية، و عرف ذلك عنه، و دفع ذلك "طه حسين" إلى أن يقول عن كتاب (رسائل الأحزان) : "إن كل جملة من جمل الكتاب تبعث في نفسك شعورا قويا أن الكاتب يلدها ولادة، وهو في هذه الولادة يقاسي ما تقاسيه الأم من آلام الوضع".
كان "الرافعي" ـ رحمه الله ـ " يجهد جهده في الكتابة، ويحمل من همها ما يحمل"، وكان "لا يرحم نفسه إذا حملها على شيء"، وربما اقتضاه المقال الواحد أن يقرأ مئات الصفحات كما حدث عند كتابته مقالة "البلاغة النبوية"، فهو "لم يتهيأ لكتابتها حتى قرأ صحيح البخاري كله قراءة دارس، وأنفق في ذلك بضعة عشر يوما … ثم كتب الفصل بعد ذلك في ثلاثة أيام"!
وقل مثل ذلك فيما كتبه عن "شوقي" و "حافظ" فهو لم يقدم على ذلك حتى قرأ ديوانيهما قراءة متذوِّقٍ متأمِّلٍ، وحسبي أن أشير هنا إلى نُتَفٍ من أقواله يصف فيها ما عاناه من نصب في تأليف كتابه "أوراق الورد":
ـ " لأني شديد التعب في هذا الكتاب، و الكتابة فيه عسرة جدا".
ـ " أوراق الورد انتهى، و سأبدأ في التنقيح و التبييض وهو عمل شاق، و الله المعـين، و هذا الكتاب تعبت فيه كثيرا".
ـ "وقد تعبت فيه أشد التعب".
ـ "لا بد أن أوراق الورد كان طاحونة للأعصاب".
ـ " كل هذا التخريب العصبي جاء من "وراق الورد" ومن النزلة الملعونة".

لقد كان "الرافعي" يأخذ الكتابة مأخذ الجد، و ما كان يرضى فيها بالسهولة التي تفضي إلى سقوط المبنى والمعنى، ولم يرض قط أن يشعوذ على قرائه بكلام غير محرر ليملأ به فراغا من صحيفة.

وأما المجاز وإكثاره منه، فحسبك شاهدا عليه أن تقـرأ كتبه الثلاثة: (حديث القمر) و (رسائل الأحزان) و (السحاب الأحمر)؛ فإنك لن تعدم فيها فنونا من المجاز متداخلةً آخذا بعضها بحجز بعض، يُسْلِمُك الواحد منها إلى الآخر.
وربما أفضى به التوسع في المجاز ومخاطرته فيه ومداخلة بعضه في بعض إلى درجة من الغموض و التعقيد.


4ـ كيف كان يكتب ؟
غرض هذه الفقرة بيان (الطقوس) التي كان يتبعها "الرافعي" وهو يمارس الكتابة، وقد عقد صفيُّه "العريانُ" فصلا ممتعا كشف فيه عن طريقته ـ رحمه الله ـ وخلاصتها: أنه كان يُعمل ذهنُه أبدا في البحث عن موضوعاته، يستخرجها مما يراه أو يقرؤه، ومن ثم كان يحمل دائما في جيبه ورقات يضمّنها خواطره وأفكاره وعناوين موضوعاته.
فإذا اختار موضوعه ترك فكره يعمل فيه، حتى إذا اجتمع له ما يرضاه أخذ في ترتيب معانيه، وتنسيق أفكاره، و حذف فضولها، وحينئذ يشرع في الصياغة.
و أول ما يعنيه من ذلك بدء الموضوع و خاتمته، فإذا جاءه من ذلك ما يرضاه، أخذ أُهْبَتَه للإملاء، واستعد لذلك بقراءة يسيرة في كتاب لإمام من أئمة البيان كالجاحظ وابن المقفع ونحوهما، ثم يشرع في إملائه، وكان إبان ذلك يغلق شرفته، ولا يأذن بصوت ولا ضوضاء حتى يفرغ مما هو فيه بعد ساعات أربع أو تزيد، يتخذ خلالها فنجانة أو اثنتين من الشاي والقهوة، وربما أشعل دخينة أو دخينتين.
فإذا فرغ من إملائه عمد إلى الشرفة يستنشق هواءها، ثم أوى إلى فراشه، ثم يكون أول عمله في الصباح بعد صلاة الفجر أن يعود إلى مقاله فيقرؤه و يصححه.
هذه هي مقالة "الرافعي" "مقالة هي عمل الفكر، و كد الذهن، وجهد الأعصاب، و حديث النفس في أسبوع كامل، ولكنها مقالة!"




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق